عباس المسكري
في الأوقات التي تهتز فيها القلوب وتتعاظم فيها مشاعر الأسى، يظهر المعدن الحقيقي للمجتمعات، وتبرز أجمل القيم التي تربط الناس ببعضهم، وما شهدناه في الأيام الماضية أعاد لنا اليقين بأن الإنسانية ما زالت حاضرة بكل تفاصيلها، وأن التراحم والتكاتف ليس مجرد كلمات، بل فعل حيّ ينبض في كل بيت وشارع ونبض قلب.
لقد كانت ردة الفعل وعمق الحزن الذي مرَّ به الجميع دليلًا واضحًا على قوة الترابط الاجتماعي في هذا الوطن العزيز، وما وصل من رسائل ومواساة وتعاطف صادق كان يحمل أسمى معاني النبل والإنسانية، وليس هذا التآزر بغريب على المجتمع العماني الذي عُرف دائمًا بثباته وقت الشدة وتراحمه وقت الأزمات، ومن المؤكد أن الحكومة الموقرة، وعلى رأسها جلالة السلطان المعظم- حفظه الله- يثمنون هذه المشاعر النبيلة ويقدّرون هذا الالتفاف الصادق الذي يجسد أصالة العمانيين وصدق معدنهم.
وما كانت اللفتة السامية لعاهل البلاد وتوجيه أوامره للقيام بواجب العزاء والمواساة في الوقت الذي تحتفل فيه البلاد بيومها الوطني، إلا تأكيد على أهمية وعظم الفاجعة وأثرها الذي هز الضمير الإنساني وجعلها حدثًا مستنكرًا في وطن حباه الله بعظيم الخيرات والنعم التي لا تُعد ولا تُحصى.
ومن تمام المسؤولية الوطنية أن تكون هذه اللحظات العصيبة دافعًا لمراجعة القوانين والأنظمة التي تمس حياة المواطن بشكل مباشر، وفي مقدمتها قوانين التسريح من العمل، بحيث لا يُترك أي فرد بلا بدائل أو حلول تحفظ له كرامته واستقراره الأسري.
كما إن التعجيل باحتواء المُسرَّحين من العمل، والشباب الباحثين عن فرص كريمة، ومراجعة أوضاع المتقاعدين، وذوي الدخل المحدود، وأسر الضمان الاجتماعي، والأرامل واليتامى، وذوي الإعاقة، وكل من أنهكه ثقل الحاجة وضغط التضخم، كل ذلك يمثل واجبًا وطنيًا لا يحتمل التأجيل، وإعادة النظر في مسألة المنح المقدمة للمُسرَّحين والباحثين عن عمل، بما يضمن عدالتها وكفايتها، مع ضرورة الإسراع في إيجاد الحلول الفاعلة التي تمكنهم من التكيف مع تحديات الحياة الأسرية والمعيشية والمالية، فالمجتمع لا يقوى إلا بأبنائه، والعدل في توزيع الفرص والرعاية هو أساس التماسك الذي يحمي الوطن من تكرار مثل هذه الفواجع.
ومن المهم، في هذه اللحظات العصيبة، أن نلتفت بعين الحكمة إلى الأسباب والمُسبِّبات، لنفهم ما جرى ونسهم في تفادي تكرار مثل هذه الفواجع مستقبلًا، ونشر الوعي بين الناس حول الوقاية والمسؤولية المشتركة. وفي الوقت نفسه، يجب أن نحذر من استغلال هذه الأحداث المؤلمة من قبل من يسعى للفت الأنظار أو المتربصين الذين يصطادون في الماء العكر، ويختلقون روايات لا أصل لها؛ فالمشهد يحتاج إلى العقل والحذر، واحترام حرمة المتوفين وخصوصية أهلهم، والابتعاد عن الصور والمقاطع والتعليقات المثيرة؛ لأن صون الكلمة وقت المحنة ومراعاة شعور المكلومين، من أرقى صور الإنسانية والمسؤولية.
وبرغم الألم، فإن هذه اللحظات الصعبة تحمل في داخلها قوة من شأنها أن تعزز الوعي وتدفع بالمجتمع والجهات المختصة للعمل المشترك بروح أعلى ومسؤولية أعمق؛ فالوطن حين يقف متماسكًا، ويحوّل محنته إلى درس وطاقته إلى عمل، يخرج أقوى وأقدر على حماية أبنائه ورعاية مستقبلهم.
إننا نؤمن بالقدر ونؤمن أن لكل أجل كتاب، لكننا نؤمن أيضًا أن لكل وطن رؤية ومسار يختاره بإرادته، ورؤية "عُمان 2040" ليست مجرد خطة تنموية؛ بل هي عهدٌ بأن تكون كرامة المواطن ورفاهيته في صدارة الأولويات، وأن تُبنى السياسات والقرارات على أساس حماية الإنسان قبل كل شيء.
ومن هنا.. فإن تحويل الألم إلى وعي، والمحنة إلى قوة، هو الطريق الذي يجعلنا أكثر استعدادًا لمواجهة التحديات، ويضمن أن تكون هذه الفاجعة نقطة انطلاق نحو مستقبل أكثر أمانًا وعدلًا؛ حيث لا يُترك أحد خلف الركب، ويظل الوطن متماسكًا بأبنائه، قويًا برؤيته، وعظيمًا بإنسانيته.
