عبدالنبي الشعلة **
مع اقتراب انعقاد قمة المنامة الخليجية في الثالث من ديسمبر المقبل، تبدو دول مجلس التعاون على أعتاب لحظة اقتصادية فارقة، تحمل معها أسئلة كبرى حول مستقبل المنطقة، وقدرتها على تحويل الزخم الحالي إلى استراتيجية موحّدة تعزّز التكامل وتدعم مسار التنويع الاقتصادي. فالأرقام والمؤشرات التي تسجلها اقتصادات الخليج اليوم ليست مجرد بيانات مالية، بل هي إشارات واضحة إلى دخول المنطقة مرحلة جديدة يُعاد فيها تشكيل نموذجها الاقتصادي، وتتسارع فيها خطوات الإصلاح والتنمية استعدادًا لعقد جديد من التغيير العميق.
وفي ظل هذا السياق، يصبح من المهم قراءة الصورة الكاملة للمشهد الاقتصادي الخليجي: نقاط القوة المتنامية، التحديات المشتركة، والفرص التي يمكن للقادة الخليجيين التقاطها في قمة المنامة لتأسيس مرحلة أكثر تماسكًا وتكاملًا.
إن الاقتصادات الخليجية تتحرك بحيوية مختلفة؛ فالمملكة العربية السعودية تتبوأ موقع الصدارة اقتصاديًا بناتج محلي يتجاوز تريليون و200 مليون دولار، مدفوعًا بالمشاريع العملاقة وبرامج التحول التاريخية التي تقودها رؤية 2030. وتأتي الإمارات ثانيًا بنموذج اقتصادي مختلف تمامًا؛ إذ تعتمد على اقتصاد متنوع استطاع خلال سنوات قليلة أن يرسّخ مكانتها كمركز عالمي للتجارة والخدمات والسياحة والاستثمار.
وتواصل قطر الاعتماد الناجح على قوة قطاع الغاز المسال واحتياطاتها المالية الضخمة، بينما تحافظ الكويت على اقتصاد قوي، لكنه يحتاج- كما يعترف الكويتيون أنفسهم- إلى إصلاحات تشريعية ومالية مؤجلة. أما سلطنة عُمان فقد قطعت شوطًا مهمًا في برامج التصحيح المالي، وتتحرك بإيقاع متدرج نحو رفع مساهمة القطاعات غير النفطية. وفي البحرين، فإن صغر حجم السوق لم يكن يومًا عائقًا أمام بناء اقتصاد مرن استطاع أن يحقق أعلى نسبة خليجيًا في مساهمة القطاعات غير النفطية في الناتج المحلي.
هذه الفوارق لا تعكس ضعفًا أو تفوقًا بقدر ما تُظهر اختلافًا في الموارد والبنية الإنتاجية ومسارات التنمية؛ فلكل دولة تركيبتها وتحدياتها وطموحاتها، لكن نقطة الالتقاء تظل في رغبة الجميع في تجاوز الاعتماد على النفط كمصدر دخل رئيسي.
ويشكّل نصيب الفرد من الناتج المحلي أحد المؤشرات المهمة على مستوى الرفاه، وفي هذا المجال تواصل قطر تسجيل أعلى مستوى عالميًا تقريبًا، تليها الإمارات والكويت. غير أن هذا المؤشر لا يعكس بالضرورة جودة الحياة أو كفاءة الخدمات، فالسعودية والبحرين وعُمان، رغم انخفاض نصيب الفرد مقارنة بجارتيهما، تحقق تقدمًا مستمرًا في تحسين الخدمات العامة وتطوير البنية التحتية وخلق فرص عمل نوعية، إن ما يهم اليوم ليس الرقم ذاته، بل كيفية استخدامه في بناء اقتصاد مستدام قادر على توفير حياة كريمة للأجيال القادمة.
إنَّ سرعة التحول نحو الاقتصاد غير النفطي هو المؤشر الأبرز في المشهد الخليجي. البحرين تتصدر بنسبة 83%، والإمارات تتقدم بنموذج بالغ التنوع، والسعودية تحقق قفزة تاريخية برفع مساهمة القطاعات غير النفطية إلى أكثر من 50% لأول مرة. هذه الأرقام ليست مجرد مؤشرات حسابية، بل تعبير عن تغيير جذري في طبيعة الاقتصاد الخليجي.
الكويت وعُمان، من جانبهما، تبذلان جهودًا أكبر لتسريع هذا التحول، غير أن التحدي يكمن في عمق الإصلاحات المطلوبة وفي قدرة السوق على خلق بيئة جاذبة للاستثمارات النوعية.
نعم، بالنسبة لجاذبية الاستثمار وثقة العالم، فإنَّ الإمارات تتقدم خليجيًا في جذب الاستثمارات الأجنبية؛ ووفقًا للتقرير الصادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) بلغت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر لدولة الإمارات 45.6 مليار دولار في عام 2024 بنمو 48% عن العام الذي سبقه، تليها السعودية، ثم قطر وعُمان والبحرين. ويشكل هذا الترتيب انعكاسًا لثقة المؤسسات المالية الدولية، التي تظهر بوضوح في التصنيفات الائتمانية؛ الإمارات في المقدمة (AA2)، تليها قطر، ثم السعودية والكويت (A1)، بينما تواصل عُمان والبحرين تحسين موقعهما رغم ضغوط المالية العامة.
وهذه التصنيفات ليست مجرد رأي مؤسسات؛ بل هي تكلفة تمويل، ورسالة ثقة، ونافذة لتوقعات المستثمرين تجاه قوة الاقتصادات الخليجية.
وثمة صعود واضح في قطاعات السياحة والاقتصاد المعرفي؛ فالسعودية تسجّل نموًا غير مسبوق في السياحة، مدفوعة بانفتاح تاريخي على العالم وبرامج تطوير ضخمة. والإمارات تواصل دورها كمركز سياحي عالمي جذب أكثر من 25 مليون زائر عام 2024.
قطر، بعد كأس العالم، أصبحت لاعبًا أكثر حضورًا، فيما تُحافظ البحرين وعُمان على ميزاتهما السياحية رغم شدة المنافسة.
وفي الوقت ذاته، يتشكل في الخليج اقتصاد جديد قائم على الابتكار والترقيم؛ فالبنية التكنولوجية المتقدمة وتغطية شبكات الجيل الخامس التي تتجاوز 90% في معظم دول الخليج باتت مكوّنًا أساسيًا لتحول المنطقة نحو اقتصاد معرفي قادر على المنافسة.
وتتجه دول الخليج العربية بقوة إلى الطاقة المتجددة، ليس فقط استجابة لضغوط عالمية؛ بل إدراكًا بأن النفط لن يبقى المصدر المهيمن في القرن القادم. السعودية تضع لنفسها أهدافًا ضخمة تتجاوز 27 جيجاوات، والإمارات تستثمر بكثافة في مشاريع الطاقة النظيفة، فيما تتحرك قطر والكويت وعُمان والبحرين وفق خطط متدرجة في طموحها وحجمها.
ورغم الزخم الإيجابي، تواجه دول الخليج تحديات مشتركة: وهي الاعتماد الكبير على العمالة الوافدة، ضرورة تطوير التعليم وربطه بسوق العمل، الحاجة لزيادة المحتوى المحلي في الصادرات، ومعالجة فجوات المالية العامة.
لكن الفرص أكبر بكثير؛ إذ إن سوقًا خليجية موحدة قادرة على خلق اقتصاد تريليوني جديد، قدرة حقيقية على قيادة الاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي، إمكانات هائلة في الطاقة البديلة، وموقع استراتيجي يربط ثلاث قارات ويؤهل الخليج ليصبح مركزًا عالميًا لسلاسل الإمداد.
إنَّ التحولات الاقتصادية التي تشهدها دول الخليج العربية اليوم ليست عابرة، بل هي جزء من مشروع تاريخي يُعيد صياغة مستقبل المنطقة. ومع اقتراب قمة المنامة، تتعزز التطلعات إلى أن يتوجه القادة نحو قرارات تعمّق التكامل، وتسرّع الإصلاح، وتدفع الاقتصادات الخليجية إلى مرحلة جديدة من القوة والتنافسية؛ إن مستقبل الخليج لن ينتظر أكثر؛ بل علينا أن نصنعه اليوم.
** كاتب بحريني
