عندما يملأ السفير كرسي المسؤولية

 

 

 

عبدالنبي الشعلة

في المقالين السابقين، وقفتُ عند نماذج مشرّفة من العمل المؤسسي في مملكة البحرين؛ فتناول الأول جهود وزارة الأشغال وما حققته من إنجازات لافتة، فيما استعرض الثاني قصة نجاح شركة ألمنيوم البحرين "ألبا" وما يمثله قطاع الألمنيوم الخليجي من رافعة اقتصادية متنامية. واليوم، أواصل النهج نفسه، لأتوقف عند نموذج آخر من نماذج الأداء الوطني المشرف، وهو أداء أحد سفراء مملكة البحرين، الذي استطاع أن يملأ كرسيّ المسؤولية بكفاءة واقتدار، وأن يحول موقعه الدبلوماسي إلى منصة للعمل والإنجاز والتأثير.

إنني أدرك أن هذا النوع من الكتابة لا ينسجم مع رغبات بعض القرّاء ممن يركزون على النصف الفارغ من الكأس، ويجدون في الإشادة بالمُنجزات نوعًا من المديح غير الضروري. غير أن المسؤول، حين يجتهد ويبتكر ويتجاوز حدود الواجب الوظيفي، يصبح من الإنصاف والإيجابية- بل ومن مصلحة الوطن- أن نقدّم تجربته كنموذج يُحتذى، لا باعتبارها استثناءً، بل باعتبارها شهادة على أن العمل الجاد قادر على صنع الفرق.

هذا السفير هو الدكتور جمعة بن أحمد الكعبي، سفير مملكة البحرين لدى سلطنة عُمان الشقيقة، الذي يتحرك في مساحة رحبة من العلاقات البحرينية- العُمانية التي تضرب بجذورها في أعماق التاريخ منذ حضارتي دلمون ومجان؛ حيث ازدهرت التجارة وتداخلت مسارات التواصل بين المنامة ومسقط قبل آلاف السنين. وعلى المستوى السياسي، تمضي الدولتان اليوم على خط واحد من الثوابت: حياد إيجابي، وحسن جوار، واحترام سيادة الدول، وتغليب الحوار، وتعزيز التعايش، والدفع باتجاه السلام المستدام وحماية حقوق الإنسان. هذه الرؤية المشتركة أسست لمسار دبلوماسي هادئ ومتزن، استطاع أن يبني علاقة متينة لا تهزها المتغيرات.

ومنذ بدء مهامه، قبل سبع سنوات، انتهج السفير الكعبي نهجًا يقوم على الدبلوماسية الاقتصادية بوصفها محورًا رئيسًا للعمل الدبلوماسي. لم تعد السفارة مركزًا بروتوكوليًا تقليديًا؛ بل أصبحت فاعلًا اقتصاديًا يسعى لجذب الاستثمارات، وفتح قنوات جديدة للتعاون، وتفعيل شراكات استراتيجية بين القطاعين الخاصين في البلدين.

ويُعد المنتدى الاقتصادي العُماني- البحريني، الذي عُقد في الشهر الماضي بمشاركة واسعة من رجال الأعمال، محطة مفصلية في هذا المسار؛ فقد ناقش المنتدى فرص الشراكة في أكثر من عشرة قطاعات، من الإنشاء والعقار إلى التكنولوجيا والصحة واللوجستيات، وقد تم التأكيد في المؤتمر على أهمية تكامل رؤية "عُمان 2040" مع رؤية البحرين الاقتصادية 2030؛ بما يُمهِّد لمرحلة جديدة من التعاون الاقتصادي الشامل.

ومن ثمار هذا التوجه تأسيس الشركة العُمانية- البحرينية للاستثمار برأس مال أوَّلي يبلغ 10 ملايين ريال عُماني، والتي انطلقت خلال الزيارة السامية لجلالة السلطان هيثم بن طارق إلى البحرين عام 2022. ولا تُعد هذه الشركة مشروعًا عابرًا، بل نواة لمشاريع مستقبلية تدعم التنمية في البلدين.

إنَّ البيانات الرسمية تؤكد أنَّ السفارة نجحت في تعميق العلاقات الاقتصادية بشكل ملحوظ، فقد ارتفع حجم الاستثمار والتبادل التجاري بين البلدين، وازداد عدد المستثمرين البحرينيين والشركات البحرينية العاملة في السلطة وكذلك الحال بالنسبة للمستثمرين العُمانيين والشركات العُمانية العاملة في المملكة. ومن بين المؤشرات الايجابية العديدة أن 1236 ترخيصًا اقتصاديًا صدرت لمواطنين عُمانيين في البحرين، مقابل 1140 ترخيصًا لبحرينيين في عُمان، وإن أكثر من 500 شراكة بين رواد أعمال من البلدين انشأت خلال عام 2024.

هذه الحقائق والأرقام ليست مجرد بيانات جامدة، بل تشكل خريطة طريق تبرز حجم التقدم الذي تحقق نتيجة جهود السفارة.

كما شهدت السنوات الأخيرة زيارات رفيعة المستوى من قيادتي البلدين، كان آخرها زيارة جلالة الملك المعظم حمد بن عيسى آل خليفة إلى صلالة في أغسطس 2025، وزيارة «الدولة» إلى مسقط في يناير 2025، والتي وُصفت بأنها نقطة تحول في العلاقات الثنائية. كما أدت زيارة السلطان هيثم بن طارق إلى البحرين عام 2022 إلى توقيع 6 اتفاقيات و18 مذكرة تفاهم.

وتواصل اللجنة البحرينية- العُمانية المشتركة، منذ تأسيسها عام 1992، دورها الحيوي في متابعة المبادرات وتحويلها إلى اتفاقيات وبرامج تنفيذية تعزز التعاون في مختلف المجالات.

وقد انتهجت السفارة دبلوماسية حديثة تقوم على تنويع أدواتها، فإلى جانب الدبلوماسية الاقتصادية، تحركت سفارة البحرين في مسارات: الدبلوماسية الثقافية، والدبلوماسية السياحية، والدبلوماسية الرياضية، والدبلوماسية الاجتماعية والشعبية.

وتنوعت الجهود الدبلوماسية لتشمل الثقافة والتعليم؛ حيث جرى اعتماد 16 جامعة عُمانية في البحرين، و9 جامعات بحرينية في عُمان، وارتفع عدد الطلبة في الاتجاهين. كما نُظم الأسبوع الثقافي البحريني في مسقط، ومعارض الفن التشكيلي، وفعاليات الحرف التراثية.

وارتفع عدد السواح إلى 57 ألف سائح عُماني زاروا البحرين عام 2024، و47 ألف سائح بحريني زاروا عُمان في العام نفسه.

ويبلغ عدد أبناء الجالية البحرينية في عُمان اليوم نحو 950 مواطنًا، وقد حرص السفير على عقد مجلس دوري لهم، ومتابعة أوضاعهم، والتواصل معهم، وحل ما قد يواجهونه من تحديات، إلى جانب مساندة الطلاب والمستثمرين وإشراكهم في فعاليات السفارة المختلفة، ما عزز من روح الانتماء والطمأنينة لديهم.

إن ما تقوم به سفارة مملكة البحرين لدى سلطنة عُمان مثال حيّ على الدبلوماسية الفاعلة، والعمل المؤسسي الواعي، والحرص على تحويل العلاقات الثنائية إلى نتائج ملموسة. وعندما يملأ السفير كرسي المسؤولية، فإنه لا يقوم بواجبه فحسب، بل يرفع من شأن بلاده، ويجسد قيمها، ويعزز حضورها، ويترك بصمة حقيقية في مسار التنمية والشراكة.

والنماذج الجادة لا بُد أن تُذكر، لأنها تضيء الطريق، وتكشف أن في هذا الوطن أشخاصًا يعملون بصمت.. ويصنعون أثرًا كبيرًا.

الأكثر قراءة