خالد بن سالم الغساني
هنا بين ذاكرة تاريخٍ واسع امتد من آسيا إلى إفريقيا، وعقلٍ حاضرٍ ناضجٍ يزن المواقف بميزان العدل، تتجلى عُمان كصوتٍ مختلف؛ صوتٍ يختار الحكمة طريقًا، والاتزان منهجًا، والصدق عنوانًا لا يعلوه عنوان ولا يخالط بلغة المصالح المتقلبة والزائلة.
حين اعتلى معالي السيد بدر بن حمد البوسعيدي وزير الخارجية المنصّة، ممسكًا بورقته التي بدت أقرب إلى بيانٍ إنساني منها إلى خطابٍ دبلوماسي أو موقف سياسي، كان المشهد مهيبًا في بساطته، صامتًا في أثره، حتى إن القاعة بدت وكأنها تُصغي لصوت التاريخ لا لصوت السياسة. تحدث الوزير بذلك الهدوء العُماني المعهود الذي يُشبه البحر حين يُخفي عمقه تحت سطحٍ ساكن، وبذلك الاتزان الذي لا يعرف المزايدة ولا الانفعال. في نبرته واثق الخطى، وفي عباراته صدقٌ لا يحتاج معه إلى رفع الصوت أو استدعاء الشعارات. كنت أستمع إليه معتزًا بانتمائي إليه ومأخوذًا بدهشة الإعجاب الممزوج بالامتنان، نعم، هذا هو الصوت الذي نفتقده في زمنٍ يضج بالصراخ وأصوات المدافع والصواريخ.
ظل المشهد عالقًا بقوة، وما ينفك ان يذكرني بوجوده، يأبى أن يمر دون أن أتحدث عنه بصوت مسموع، لأن في ذلك الهدوء العُماني ما يزلزل الصخب، وفي تلك اللغة البسيطة ما يعيد تعريف الوقار.
لم يكن الموقف الذي عبر عنه الوزير، عرضٌ لموقف سياسي أو بيان دبلوماسي، بقدر ما كان تجسيدًا حقيقيًا لروحٍ عُمانيةٍ أصيلة، تُسمي الأشياء بمسمياتها وتقول ما يجب أن يُقال دون مجاملةٍ أو محسوبيةٍ أو مداراة. لقد أعلن بوضوح لا يحتمل التأويل، أن دويلة الكيان الإسرائيلي المحتل، لا إيران، هي المسبّب الأول لعدم الاستقرار في المنطقة، وإنها لا لازالت في منظورنا، وستظل العدو الأول والحقيقي لا ينافسها عليه أحد، وأن السلام لا يمكن أن يولد من رحم ظلم القوي، ولا يمكن للعدالة أن تتنفس في ظلّ احتلالٍ يُصر على فرض وجوده بقوة الحديد والنار على حساب شعب كامل. وما سمعناه على لسان الوزير هو امتداد لرؤيةٍ تاريخيةٍ عميقة تستند إلى وعي بالعدالة والإنصاف، وإلى قراءةٍ هادئةٍ لموازين القوى، تُفرق بين الخطر المؤقت والمصدر الجذري لاضطراب المنطقة، وإلى موقفٍ ثابتٍ لا يتغير تحت أي لغة.
ومن يستحضر تاريخ عُمان يدرك أن هذا الاتزان في الموقف ليس وليد اليوم، فهي التي كانت يومًا إمبراطوريةً تمتدّ من ضفّتي آسيا إلى سواحل إفريقيا، تزرع التعايش والامن والاستقرار بالحكمة لا بالقهر، وتفتح المرافئ للتبادل والتواصل بين الناس لا للغزو.
في تلك الجغرافيا الشاسعة تكونت ورسخت فلسفة الدولة التي تؤمن بأن النفوذ لا يمكن قياسه بالهيمنة؛ بل بالقدرة على بناء الثقة، وأن المجد لا يقاس بسعة المساحة من الأرض؛ بل بعمق المبدأ. تلك هي الجذور التي أنبتت سياسة الحياد الإيجابي؛ حيث لا مسايرة ولا عداء؛ بل سعيٌ دائم لتغليب العقل على العاطفة، والتوازن على الانحياز.
لقد كانت الورقة العُمانية في منتدى حوار المنامة درسًا في النضج السياسي، لأنها لم تُهادن ولم تُعاند، بل قالت الحقيقة كما هي، بلغةٍ تُشبه صلاةً تُتلى على مسامع الضمير العربي: صافية، صادقة، ومفعمة بإيمانٍ بأن السلام لا يُستورد، بل يُبنى على العدل، وبأن رفاه الشعوب لا يتحقق ما لم تُرفع المظالم ويُكسر احتكار القوة. لذلك فإن دعوة السلطنة إلى حوارٍ شاملٍ لا يُقصي أحدًا ليست من باب المجاملة الدبلوماسية، بل من صميم الإيمان بأنّ الأمن الإقليمي لا يتجزأ، وأنّ العيش المشترك لا يمكن أن يُبنى على الخوف المتبادل.
أثبتت عُمان مرة أخرى أن الصدق في السياسة أرفع من براعة المناورة، وأنّ تسمية الأشياء بأسمائها هي أول درجات الشجاعة؛ ففي وقتنا الراهن الذي تتبدل فيه المواقف على موازين المصالح، وتُقاس المبادئ ببرودة الحسابات، تظلّ السلطنة ثابتة على نهجها الحكيم والعاقل، تدافع عن قيم العدالة والسلام لا لأنها تملك فائضًا من المثاليات، بل لأنها تعرف أن الاستقرار الحقيقي والسلام الحقيقي والدائم لا يولد من التنازلات؛ بل من وضوح الرؤية وثبات الأخلاق.
وهكذا أعاد لي، مشهد وزير الخارجية العُماني وهو يتحدث بوقار البحر لا بصخبه، وبشموخ الجبال لا بسكينتها، عديدٌ من المواقف التي غيرت كثيرًا من وجه العالم بهدوء وصدق وتصميم ورزانة. فكم نحن بحاجةٍ إلى مثل هذا الهدوء الذي يُعيد ترتيب ما خلفته الفوضى، وإلى تلك الشجاعة التي لا تبحث عن تصفيق؛ بل عن صدق مع النفس. وهنا يتداعى سؤال الختام، لا على السياسة وحدها؛ بل على وعينا نحن جميعًا: هل نملك ما يكفي من الفهم الواعي لنُدرك أن في صوت الحكمة هذا خلاصًا، وفي صمته قوةً، وفي صدقه الطريق نحو ما حلمت به هذه المنطقة منذ قرون، الأمن، والسلم، وكرامة الإنسان؟!
