د. إبراهيم عاكوم **
أطلق صندوق النقد الدولي (IMF) خلال الاجتماعات السنوية للصندوق ومجموعة البنك الدولي والتي عقدت خلال الفترة 13-18 أكتوبر 2025، في مقر الصندوق في العاصمة الأميركية واشنطن، تقرير الراصد المالي (Fiscal Monitor) الذي تناول مسألة تدهور آفاق الدين العام العالمي ومخاطره على النمو الاقتصادي والاستقرار المالي الدولي.
ويُبيِّن السيناريو المرجح في التقرير أن يتجاوز الدين العام العالمي 100% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي بحلول عام 2029، وهذا أعلى مستوى له منذ الحرب العالمية الثانية مباشرة، علمًا بأنَّ هناك احتمال بأن تصل هذه النسبة إلى 129% في حال تحقق السيناريو الأسوأ!
وبطبيعة الحال، تتباين نسبة المديونية هذه بشكل صارخ بين الدول؛ إذ بلغ أعلاها نحو 261% في السودان و236% في اليابان، وأدناها 0.5% في إمارة ليختنشتاين الأوروبية. وفي هذا السياق، تتميز سلطنة عُمان بالإنجاز الهائل الذي حققته في مجال خفض معدل المديونية؛ حيث انتقلت من المركز 116 من أصل 196 دولة في العالم من ناحية نسبة الدين العام من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2020، إلى المركز 46، ومن المتوقع أن تتقدم أيضًا إلى المركز 26 في الدول الأقل مديونية في العالم. وتمكنت السلطنة من خفض الدين العام بنهاية النصف الأول من عام 2025 إلى نحو 14.1 مليار ريال عُماني، نزولًا من 15.1 مليار ريال بنهاية عام 2024؛ أي بنسبة 35% من الناتج المحلي، مقارنة مع نحو 20.8 مليار ريال عُماني في عام 2021؛ أي ما يوازي 61.3% من حجم الناتج المحلي.
وانعكس هذا الإنجاز في التقارير التي تصدرها كافة المؤسسات الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، والتي تشير إلى أن سياسات عُمان والإصلاحات الاقتصادية الهيكلية، التي تسترشد برؤية "عُمان 2040"، أدّت إلى تحسين الأُسس الاقتصادية للسلطنة بشكل كبير؛ مما جعلها وجهة استثمارية أكثر جاذبية، وأن الأداء الاقتصادي للسلطنة يعكس نجاح سياساتها المالية والاقتصادية في ظل التغيرات العالمية؛ بما يتماشى مع أولويات التنويع الاقتصادي والاستدامة المالية.
وكذلك، أثمرت جهود إدارة الدين في عُمان، رفع مؤسسات التصنيف العالمية مثل ستاندرد آند بورز (S&P) وفيتش (Fitch) وموديز (Moody’s) تصنيف السلطنة الإئتماني خلال السنوات القليلة الماضية. وتحديدًا، أكدت وكالة ستاندرد آند بورز في سبتمبر 2025 تصنيف سلطنة عُمان على مستوى الجدارة الاستثمارية (Investment Grade) "BBB-" مع نظرة مستقبلية مستقرة، وهو ما يُعتبر بيئة استثمارية آمنة، مشيرةً إلى عوامل متعددة منها خفض نسبة المديونية. وكذلك الأمر، رفعت وكالة موديز التصنيف الائتماني للسلطنة إلى Baa3 مع نظرة مستقبلية مستقرة لتنتقل إلى فئة الجدارة الاستثمارية، على خلفية تحسن مؤشرات الدين العام وكفاءة الإدارة المالية. وكانت مؤسسة فيتش قد ثبّتت التصنيف الائتماني للسلطنة عند +BB مع تعديل نظرتها المستقبلية من مستقرة إلى إيجابية، نتيجة استمرار الإجراءات الحكومية في خفض الدين العام وديون الشركات الحكومية، وضبط المالية العامة.
فما هي باختصار أبرز العوامل والخطوات وراء نجاح السلطنة في إدارة الدين العام وقدرتها على استخدام المكاسب من قطاع النفط والغاز خلال السنوات القليلة الماضية لتعزيز وضع المالية العامة، والتمكن من الانتقال إلى مصاف الأسواق التي تصنف كأسواق ذات جدارة استثمارية (Investment Grade)، وماذا عن الانعكاسات الخطيرة لو لم تعمد السلطنة بفعالية إلى خفض الدين العام؟
عمليًا، هناك خطوات متعددة تم اتخاذها بهذا الشأن؛ حيث شهد عام 2017 إنشاء وحدة إدارة الدين العام بوزارة المالية؛ بهدف إدارة محفظة الدين العام، وأطلقت السلطنة خطة التوازن المالي متوسطة المدى (2020-2024) لترشيد ورفع كفاءة الإنفاق الحكومي، وتنويع مصادر الإيرادات، وتحفيز النمو الاقتصادي، وتعزيز منظومة الحماية الاجتماعية. وفي عام 2023، صدر قانون الدين العام بالمرسوم السلطاني رقم (68/ 2023) والذي يهدف إلى إدارة الدين العام وفقًا لأفضل الممارسات السليمة والآمنة، وتجنيب الدولة المخاطر المالية، وضبط الدين العام والحد من أعبائه، إضافة إلى تمكين الحكومة من إصدار أدوات الدين العام. وتضمن قانون الدين العام، قرارًا بتشكيل لجنة إدارة الدين العام لكي تُشرف على استراتيجيات تمويل الحكومة وإدارة التزامات الديون الحكومية بأقل تكلفة ممكنة مع الحفاظ على درجة حكيمة من المخاطر.
إلّا أن إنشاء أُطر مؤسسية وقانونية لا يكفي وحده لتحقيق إنجازات، وهنا تأتي الأهمية الأكبر أولًا للتوجيهات من أعلى المستويات في الدولة لنجاح إدارة الدين العام؛ بما يحفظ المال العام ويضمن الاستدامة المالية وحسن استخدام الإيرادات الحكومية، وثانيًا إلى الالتزام بالتطبيق الفعَّال لهذه التوجيهات من قبل الجهات المختصة.
غير أن السياسات الاقتصادية والمالية وغيرها من السياسات العامة- بما فيها سياسة إدارة الدين العام- دائمًا عرضة للنقاش واختلاف الآراء. فعلى سبيل المثال، ذهب البعض إلى القول إنَّ الفضل في خفض الدين العام بالسلطنة مؤخرًا يعود لارتفاع أسعار النفط، وبالطبع هذا صحيحٌ جزئيًا فقط. إلّا أنه لا بُد من الإشارة إلى أمرين هنا؛ أولهما: أن أسعار النفط شهدت ارتفاعًا خلال فترات متعددة سابقًا، ومنها خلال الفترة 2016-2018، لكن ذلك لم يترافق مع انخفاض المديونية؛ بل مع ارتفاع نسبة الدين العام من الناتج المحلي من نحو 29% إلى 44%. وثانيهما: أن آخر نمط ارتفاع لأسعار النفط كان خلال الفترة منذ منتصف عام 2020 حتى منتصف عام 2022، إلّا أنَّ سياسة خفض عبء الدين العام تواصلت بعد أن بدأت الأسعار تنخفض من جديد؛ حيث تم خفض إجمالي الدين العام إلى نحو 14.1 مليار ريال عُماني بنهاية النصف الأول من عام 2025.
وكذلك، كان هناك رأي ثانٍ يعتبر أن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمواطن تمثِّل أولوية، وكان من الأجدى تخصيص الجزء الأكبر من الفوائض المالية لزيادة الرواتب والتوظيف لاستيعاب الباحثين عن العمل، بدلًا من خفض الدين. وهنا أيضًا لا بُد من الإشارة إلى أنَّه تم زيادة المخصصات الاجتماعية في نفس الوقت الذي تم فيه خفض الدين العام، والذي كانت خدمته تُشكِّل عبئًا حقيقيًا على المالية العامة للدولة، وتُشكِّل جزءًا كبيرًا من الإنفاق. فعلى سبيل المثال، تم تعزيز منظومة الحماية الاجتماعية التي أُنشئت بهدف توفير الرعاية والدعم وتعزيز التكافل الاجتماعي، وحماية الفئات المستحقة، ومنها برنامج منفعة دعم الأسرة، إضافةً إلى مُضاعفة المبلغ الذي تمَّ تخصيصه سابقًا لدعم برامج ومسارات تشغيل الباحثين عن عمل في القطاع الخاص وخصوصًا مبادرة دعم الأجور، علاوة على رفع المخصّصات المالية لبرنامج المساعدات السكنية لعام 2025، وتعزيز محفظة هيئة تنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وقيام الحكومة بتحمّل المبالغ المتبقية لبعض فئات القروض، وغيرها.
عدا عن ذلك، من الضروري هنا طرح السؤال الأهم والأخطر وهو عمَّا كان ممكن أن يحصل فيما لو لم يتم اتباع السياسات اللازمة واستغلال فرصة ارتفاع أسعار النفط لإدارة الدين وخفضه؟ وما انعكاسات عدم خفض الدين العام على النمو الاقتصادي والتوظيف واستدامة برامج الحماية الاجتماعية؟
إنَّ عملية حسابية بسيطة مبنية على النمو الاسمي لكل من الناتج المحلي الإجمالي والدين العام خلال السنوات القليلة الماضية، تُبيِّن أنه في حال لو لم يتم اتباع سياسة خفض الدين العام واستمرار نموه بالوتيرة نفسها لكان بلغ الدين العام نحو 100% من حجم الناتج المحلي الإجمالي للسلطنة الآن، عوضًا عن نسبة 35% بنهاية عام 2024، مع انعكاسات سلبية متعددة.
خلاصة القول.. إنَّ السياسة الحكيمة التي نُفِّذت لكبح جماح المديونية كان لا بُد منها، بالرغم من جوانبها السلبية قصيرة المدى كأية سياسة إصلاحية، وقد نجحت هذه السياسة في منع تفاقم العجوزات المالية للدولة والوقوع في فخ الحلقة المفرغة للدين (Vicious Circle)، وما كان يمكن أن يستتبعه من أثر سلبي على تكلفة خدمة الدين العام، وعلى حجم الائتمان المتوفر لتمويل القطاع الخاص (crowding-out effect)، واستمرار العجوزات المالية بوتيرة أعلى، وخفض قدرة الحكومة على تمويل برامج الحماية الاجتماعية، ومن ضمنها الإنفاق على الهياكل الاجتماعية التي تمس المواطن مباشرة، وخفض المصروفات الاستثمارية التي تولد النمو الاقتصادي وفرص العمل.
ويبقى القول.. إنَّ الوسيلة الأمثل لتقليل عبء الدين على الموازنة العامة وخفض نسبته من الناتج المحلي، تتجلى في رفع مستويات النمو الاقتصادي وضمان التنمية المستدامة، وأن الإدارة المالية السليمة- حسب المعايير الدولية- هي الضمان الأمثل لتحقيق هذا النمو المستدام الذي يأخذ بعين الاعتبار ليس فقط تعظيم المنفعة الحالية؛ بل أيضًا المصلحة العامة والتوازن الاقتصادي والمالي لسلطنة عُمان في المستقبل.
** باحث ومستشار اقتصادي
