أحمد الفقيه العجيلي
استمعت لمقطع تناول مصطلحًا لافتًا يتكرر في النقاشات الفكرية الحديثة: «مثقف السوق»، وهو توصيف ساخر في مظهره، عميق في معناه، يُطلق على فئة من الأشخاص الذين يمتلكون قدرًا من الثقافة أو الاطلاع، لكنهم يوظفون معرفتهم بطريقة سطحية أو تجارية أو ترويجية، دون التزام حقيقي بالمعايير العلمية أو القيم الثقافية الأصيلة.
"مثقف السوق" لا يقرأ ليُفكّر؛ بل ليُثير الإعجاب، ولا يكتب ليُوقظ العقول؛ بل ليُرضي الأذواق.
يلاحق الترندات والموجات السائدة لجذب الانتباه، ويُبسّط القضايا الفكرية إلى حد الإخلال ليضمن الانتشار، ويتحدث في كل شيء دون تخصص، ويحرص على الظهور أكثر من التأثير الجاد.
فالثقافة عنده ليست رسالة؛ بل وسيلة للتموضع في فضاء الشهرة، ولتحقيق مكاسب مادية أو رمزية.
المثقف الحقيقي يسعى وراء الحقيقة والتأثير العميق، ولو على حساب شعبيته، بينما مثقف السوق يبحث عن الانتشار والقبول الجماهيري، ولو على حساب المضمون.
الأول يُربّي العقول ويُوقظ الضمائر، أما الثاني فيُسلّي العقول ويُخدّر الضمائر. الأول يُغامر بكلمته من أجل وعي الناس، والثاني يُكيّف كلمته بحسب ما يُحب الناس سماعه.
والخطر في هذه الظاهرة أن الثقافة تتحول إلى منتج استهلاكي لا يختلف كثيرًا عن محتوى الترفيه.
يُطرح ما يروق للجمهور لا ما يحتاجه، وتُختار القضايا التي تُصفّق لها الجماهير، ويُتجنّب ما يُزعجها أو يُشعرها بالذنب والمسؤولية.
وحين يتصدّر هذا النمط المشهد، يصبح المثقف الحقيقي غريبًا في مجتمعه، بينما يتصدر المشهد من يُتقن فنّ التجميل لا فنّ التغيير.
وهنا تكمن الكارثة الحقيقية؛ فبدل أن يُمارس المثقف دوره في إنارة الوعي وتشكيل الرأي العام، يتحول إلى "مُرضٍ جماهيري" يقدّم ما يطلبه السوق من أفكار سريعة وهتافات براقة.
وتُستبدل الرسالة الفكرية بمنشورات عابرة، والبحث الجاد بتغريدة رائجة. وهكذا، يُستبدل المثقف المصلح بمثقف المحتوى، وتُصبح الثقافة سلعة في مزاد التفاعل الرقمي.
وقد تجلّت هذه المفارقة بوضوح في بعض الأحداث الاجتماعية الأخيرة التي أثارت جدلًا واسعًا بين الكتّاب والمثقفين؛ حيث انقسمت الآراء بين من عارض تلك الممارسات ورأى أنها تتنافى مع الشعائر الدينية والقيم العامة، خاصة حين تقع في أماكن عامة يُفترض أن تُحترم فيها الخصوصية الدينية والاجتماعية، وبين قلة حاولت تبريرها وتبسيطها بدعوى الانفتاح والتسامح. لكن المفارقة أن هذه الأصوات لم تكن مع الرأي العام؛ بل بدت وحيدة في موقفها، معزولة عن وجدان الناس، وكأنها تتحدث من برجٍ ثقافي بعيد عن نبض المجتمع.
وفي خضم هذا الجدل، تبرز الحاجة إلى أن يعود المثقف إلى ضميره قبل جمهوره، وإلى أن يتذكّر أن الكلمة مسؤولية لا زينة، وأن رسالته ليست أن يُرضي؛ بل أن يُنير.
ليست المشكلة في اختلاف الآراء، فذلك سُنّة الحياة الفكرية، وإنما في انفصال الكلمة عن ضميرها.
وحين يُصبح الصوت الأعلى لمن يُرضي لا لمن يُنبّه، يفقد الخطاب الثقافي رسالته.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من تعلم علمًا مما يُبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة» [رواه أبو داود].
تذكير بليغ بأن العلم إذا فقد إخلاصه ضاع أثره، وأن الكلمة إن لم تُكتب لله أصبحت سلعة في السوق، لا نورًا في العقول.
