أنور الخنجري
في زاويةٍ من التاريخ تبدو الكلمات وكأنَّها ترحل كما يرحل البشر؛ فكلمة واحدة (Mascates) وردت ضمن محتوى بصري للدكتور فيصل السويدي على منصة إنستجرام، كانت كفيلة للبحث عن مصدر هذا التشابه اللافت لـMascates واسم العاصمة العُمانية مسقط.
هذا الاسم الذي حمل في طيّاته صدى مدينةٍ عربية بعيدة في الشرق إلى شواطئ البرازيل أثار لدي الفضول لمعرفة العلاقة بينهما. الغريب في الأمر أن هذا التشابه جاء في صيغة عنوان لأغرب حرب طاحنة في البرازيل عرفت باسم: "Guerra dos Mascates" أو حرب الباعة المتنقلين، بالمصطلح البرتغالي البرازيلي.
ورغم أن هذا التشابه، على ما يبدو، ليس له علاقة لغوية مباشرة بمسقط، لكن بالطبع له ارتباط تاريخي وثيق بالإمبراطورية البرتغالية؛ ففي عام 1507، احتل البرتغاليون مسقط، وجعلوها قاعدة بحرية لهم على طرق التجارة بين الهند وإفريقيا. لكن مع منتصف القرن السابع عشر، تحديدًا عام 1650، حرر العُمانيون مدينتهم بقيادة الإمام سلطان بن سيف اليعربي، مُنهين بذلك 143 عامًا من الوجود البرتغالي. وبينما كانت مدافع العُمانيين تدوي في الخليج، كانت موانئ البرازيل تستقبل موجات جديدة من التجار والبحارة البرتغاليين، بعضهم من نفس العائلات البحرية التي غادرت المستعمرات البرتغالية في الشرق، بما فيها مسقط.
بعد خسارة البرتغاليين لمسقط وغيرها من قواعدهم في آسيا، تحوّل مركز ثقلهم الإمبراطوري غربًا نحو البرازيل. هناك في ميناء ريسيفي البرازيلي وُلدت طبقة من التجار البرتغاليين النشطين، جاؤوا من تراثٍ بحريّ طويل. كان لهذا التحول أثر كبير على السكان المحليين؛ حيث شهدت ولاية بيرنامبوكو في شمال البرازيل في مطلع القرن الثامن عشر، وتحديدًا بين عامي 1710 و1711 صراعًا داخليًا شهيرًا بين طبقتين اجتماعيتين: من جهةٍ، ملاك الأراضي القدامى في مدينة أوليندا، ومن الجهة الأخرى، التجار البرتغاليون الجدد في ميناء ريسيفي، والذين كان يُطلق عليهم ازدراءً اسم "Mascates" أي الباعة المتجولين.
كانت هذه الحرب في جوهرها صراعًا بين الإقطاع الريفي والرأسمال التجاري، لكن الاسم بقي علامة لغوية لافتة. وهكذا، يمكننا أن نرى في "Guerra dos Mascates" ليس مجرد صراع محلي في البرازيل؛ بل ظل بعيد لحركة التاريخ البرتغالي، التي بدأت من مسقط وامتدت إلى ريسيفي، مرورًا بكل الموانئ التي ربطت الشرق بالغرب.
قد لا تكون هناك وثيقة تقول صراحة إن اسم Mascates مأخوذ من "مسقط"، لكن تشابه الصوت والمعنى، مع تزامن الأحداث، يجعلان الفكرة مغرية للبحث أكثر عن هذا الارتباط اللغوي والتاريخي بين الكلمتين. فكلا الاسمين ارتبط بالتجارة، والبحر، وبالبرتغاليين أنفسهم. ولعلّها مصادفة جميلة أن تبقى مسقط، التي أسقطت الإمبراطورية في الشرق، حاضرةً تاريخياً، ولو بالاسم، في جنوب القارة الأمريكية.
خلاصة القول إن بين مسقط وMascates، يمتد خيط لغويّ وتاريخيّ دقيق، يربط بين الخليج والمحيط، بين العُمانيين الذين حرروا أرضهم، والتجار البرتغاليين الذين حملوا إرثهم البحري إلى البرازيل. إنها حكاية صغيرة من التاريخ الكبير، تُذكّرنا بأن الكلمات، مثل السفن، تنتقل بين الموانئ بلا حدود.
