د. ذياب بن سالم العبري
لم يعد ما نعيشه اليوم مجرّد تطوّرٍ تكنولوجي عابر، بل تحوّلٌ عميقٌ يُعيد تشكيل بنية المجتمعات والاقتصادات والوظائف والتعليم.
فثورة الذكاء الاصطناعي وتقنيات الثورة الصناعية الرابعة (4IR) تمضي بسرعةٍ تُشبه الطوفان؛ طوفان لا يمكن الوقوف في وجهه بالطرق التقليدية، ولا مواجهته بخططٍ مؤجلة أو بخطابٍ أكاديميٍ منغلق على ذاته.
إنها ثورة تُغيّر مفهوم "التعلّم" من الحفظ إلى التحليل، ومن المعرفة إلى القدرة على التكيّف والإبداع، وتجعل من المهارة الرقمية لغة البقاء الجديدة.
لقد أصبح لزامًا على مؤسسات التعليم العالي أن تتجاوز دورها الكلاسيكي في تخريج الباحثين عن وظائف، لتتحوّل إلى منصّات إنتاجٍ للمعرفة والفرص، تصنع من داخلها مشروعاتٍ، وتخلق وظائف قبل التخرج لا بعده؛ فالجامعة الحديثة لا يُقاس نجاحها بعدد الشهادات التي تمنحها، بل بعدد الشركات التي تُطلقها، وعدد الحلول الرقمية والابتكارات التي تقدّمها للمجتمع والاقتصاد.
إنَّ ما يحدث عالميًا ليس بعيدًا عنّا. دولٌ في الإقليم كالإمارات والسعودية والبحرين وضعت خططًا وطنية لتكامل الذكاء الاصطناعي في التعليم، وبدأت الجامعات هناك في تأسيس كليات متخصصة في علوم البيانات والروبوتات والتحليل التنبؤي، تُخرّج طلابًا يعملون على مشاريع واقعية داخل المختبرات، بالشراكة مع القطاع الخاص، منذ عامهم الدراسي الأول.
وفي المقابل، ما تزال الكثير من جامعاتنا العربية، ومنها بعض الجامعات العُمانية، حبيسة أنظمةٍ أكاديميةٍ بطيئة، تُقيّد سرعة التطوير، وتفصل بين قاعة الدرس وسوق العمل، وبين الفكر والإنتاج.
التحوّل المطلوب اليوم لا يقتصر على تحديث المناهج، بل يتعداه إلى تغيير فلسفة التعليم نفسها؛ أن نُعلّم الطلبة كيف يتعلمون، وكيف يُنتجون المعرفة ويحوّلونها إلى قيمةٍ اقتصاديةٍ ملموسة.
العالم لم يعد ينتظر المترددين؛ بل يحتفي بمن يجرؤ على التغيير، ومن يُحوّل الفكر الأكاديمي إلى تطبيقٍ عمليٍ يولّد فرصًا حقيقية في الاقتصاد الرقمي.
ولأن رؤية "عُمان 2040" جعلت من "الإنسان محور التنمية" و"الاقتصاد المعرفي" إحدى غاياتها الكبرى، فإن مؤسسات التعليم مطالبة اليوم بإعادة ترتيب أولوياتها:
* أن تُدمج التقنيات الرقمية في كل تخصص علمي.
* أن تُقيم شراكاتٍ استراتيجية مع القطاعين العام والخاص لتوجيه البحث العلمي نحو احتياجات السوق.
* وأن تُعيد تصميم برامجها الأكاديمية وفق أطر الكفاءات والمهارات المستقبلية، حيث تتكامل المعرفة التقنية مع التفكير النقدي والابتكار وريادة الأعمال.
إنَّ التحول الرقمي ليس مجرد برنامجٍ تدريبي أو منصةٍ ذكية؛ إنه ثقافةٌ جديدة يجب أن تتغلغل في بنية الجامعة بأكملها- من الإدارة إلى الطالب- ثقافة تجعل من كل مشروع تخرج مشروعًا تجاريًا، ومن كل فكرة بحثٍ منتجًا يمكن تطويره وتسويقه.
هكذا فقط يمكننا أن نصنع بيئةً جامعيةً حيّةً تستبق السوق بدل أن تتأخر عنه.
ويبقى التحدي الأكبر هو تغيير الذهنية الأكاديمية التي ما تزال تُقدّس الإطار التقليدي للمسار الوظيفي؛ فلا بُد من الانتقال من "تخريج باحث عن عمل" إلى "تخريج صُنّاع عمل"، ومن انتظار الوظيفة إلى صناعة الفرصة، ومن التعليم للحياة إلى التعلّم مدى الحياة.
هنا فقط يمكن للجامعات أن تصبح مراكز إشعاعٍ اقتصاديٍ ومعرفيٍ حقيقي، لا مؤسساتٍ تكرّر نفسها عامًا بعد عام.
إنّ المستقبل قادمٌ بسرعة، بطوفانٍ من التقنيات التي لن تنتظرنا طويلًا، فإمَّا أن نغتنم اللحظة ونتحوّل، أو نغرق في تكرار الماضي بأساليب جديدة.
والاختيار- كما يبدو- لم يعد أكاديميًا فقط؛ بل مصيريًا لوطنٍ بأكمله!
