نافذة تاريخية

 

 

وداد الاسطنبولي

التفاصيل الصغيرة تظل شواهد جميلة في حياتنا؛ من يُمسك بيدك ويشدّ عليها بقوة، تجد في تلك الشدّة مصدرًا للحنان والأمان. وإن كنت مُمتنًا فلن تنسى هذه التفاصيل مهما تقادمت الأحداث، فهي من بقايا القلوب الصادقة والعقول الأصيلة. ونِعمَ بهذه الصفات التي تجعلنا شامخين لا تهزّنا الرياح العاتية ولا الزلازل.

هذا ما شعرت به وأنا برفقة صديقتي بعد خروجنا من ملتقى "عُمان في ذاكرة التاريخ"، إذ قررنا أن نذهب إلى ولاية طاقة، إلى برج العسكر، وكأننا أردنا أن نطبع أجواء الملتقى في ذاكرتنا. كانت يد صديقتي الحانية تشدّ على يدي فتمنحني دفئًا غامرًا في تلك الرحلة.

برج العسكر، ذلك الشاهد الأثري القابع فوق مرتفع شاهق، يروي للأجيال حكاياته القديمة وتفاصيل ماضيه. جلسنا نتأمل قمته في صمتٍ تام، ثم التفتنا إلى المجسم المعروض بطريقة مُتقنة أمامنا. أخذت صديقتي تلتقط الصور، بينما ناديتُ العامل القريب ـ وقد عرفت من لكنته أنَّه من اليمن السعيد ـ وسألته عن المجسم. فأشار بيده قائلًا: "هذا نموذج مصغّر لمدينة طاقة قديمًا"، ثم أخذ يشرح: "هنا الحصن، وهناك المسجد، وذلك البيت الملوّن بالأبيض والأسود يتوسط المكان".

انشرح صدري بكلماته، واقتربت من السور أتأمل التفاصيل عن قرب، بينما صديقتي تضحك قائلة: "اقتربي أكثر!". فأجبتها مبتسمة: "لا أستطيع، لديّ رهاب المرتفعات، وهذه المسافة تكفيني".

من الأعلى يشرف البرج على المدينة بأبراجها وحصنها، وبناؤه من الطوب الرملي يشي بكونه برجًا دفاعيًا استراتيجيًا، يتيح مراقبة بحر العرب من علٍ. ولأنَّ زيارتنا صادفت موسم الخريف، كان رذاذ المطر يلامس وجوهنا، فجلسنا نحتسي الشاي الأحمر في صمت مهيب، وكأنَّ المكان نفسه يهمس بأن الصمت أبلغ من الكلام أحيانًا.

لا شك أن البرج حظي باهتمام كبير حتى أصبح اليوم واجهة سياحية بارزة تستقطب الزوار من داخل السلطنة وخارجها. ومع ذلك، تبقى هناك زوايا تستحق التفكير لتطوير التجربة وجعلها أكثر جذبًا. فمثلًا، لو وُضعت شاشة عرض تفاعلية تحكي تاريخ البرج عبر صور قديمة وخرائط مختصرة لكان أثرها عظيمًا. كما أن المقهى في الموقع يحتاج إلى تنظيم أكبر، مع تخصيص زاوية تعرض الموروثات العُمانية كجانب تعليمي للأطفال. ويمكن أن تُطبع شعارات البرج على الأكواب والهدايا التذكارية ليغدو المكان أكثر حضورًا في ذاكرة زوّاره.

وحين بدأت ستائر الغيوم تغطي السماء، التقطنا صورنا الأخيرة في هذا المعلم التاريخي، الذي يروي للأجيال حقبته بكل ما فيها من أصالة، تمامًا كما رويتُ أنا حكايتي حضرة مكانه.

الأكثر قراءة