وداد الاسطنبولي
الساعة الثانية. أغلقتُ جهازالكمبيوتر في العمل، وزوجي ينتظرني منذ نصف ساعة.
تنفستُ الصعداء بعد يومٍ مجهد، فمكتبنا - كعادته - يعجّ بالناس. لمحته من بعيد قادمًا بخطواته نحوي، فقلت في نفسي: "لا، أرجوك... عساك تغيّر اتجاهك!"
أسرعتُ بإطفاء إنارة المكتب، وما إن هممتُ بالخروج حتى التقت نظراتنا، فقال:
"انتهيتم؟"
قلت بشيء من التعب: "نعم، تأخرتَ كثيرًا."
قال: "أرجوكِ، لقد انتهيتُ من الطبيب، وسفرنا غدًا."
كانت ملامحي المُنكمشة ترجوه بالرحيل دون أن أنبس بكلمة. كان يتحدث، ولم أفهم منه شيئًا، إذ كانت عيناي تتابعان من خلال الزجاج زوجي وابني الجالس في المقعد الخلفي، يتكئ برأسه على زجاج السيارة بعد يومٍ طويلٍ منهك في المدرسة.
انتبهتُ أخيرًا إلى صوت المراجع وهو يقول:
"رحم الله والديك."
في تلك العبارة، لمستُ منه ضعفًا فطريًا يختبئ في رجاء المرضى، فاستطاع أن يجعلني أتراجع إلى الخلف. كانت دعوته تلك بلسماً رطبًا على طول يومي، هزّني موقف بسيط، وكلماتٌ تتكرر على مسامعنا كثيرًا، لكنّها خرجت منه بانكسارٍ صادقٍ جعل لها وقعًا مُختلفًا.
تذكّرتُ كم نحن في حاجةٍ للدعاء، وكيف أن دعوةَ مريضٍ قد تُستجاب، ولِمَ لا؟ ونحن جميعًا نطلب من الله زيادة الرصيد في ميزان الخير.
سألتُ نفسي - واسألوا أنتم أنفسكم أيضًا - لماذا لا نكسب الآخرين بالكلمات الطيبة، وتكسبنا الكلماتُ حوائجَنا؟
لماذا لا تحكمنا الإنسانية الربانية التي فُطرنا عليها؟ فلربما مع تعقيدات الحياة، نحتاج لهذا الإنسان، ولا نجد حاجتنا إلا عنده.
تمرّ بنا مواقف كثيرة، فنُفاجأ بأعزّ الأحباب وقد تصرّفوا بهشاشةٍ نفسية، رغم الصور الجميلة التي رسمناها لهم في ذاكرتنا. فأين فنّ المهارة في الحوار؟
إن الأحاديث هي هويتنا، وهويتنا تتجلّى في حلاوة اللسان ولذّة الكلمة، فهي انعكاسٌ لجوهرنا.
الأسلوب يرفعنا إلى أعلى الدرجات، وإتقان اختيار الأصدقاء الذين يحفظون غيبتك ويُصلحون طباعك، يُغيّر كثيرًا من مسار النفس.
فكّروا واجتهدوا في اكتساب احترام الناس، ليبقى منكم أثرٌ لا يُنسى في ذاكرتهم وبين محيطهم.
تراجعتُ وفتحتُ الإنارة، وجلستُ على مقعدي وكأني أبدأ صباحًا جديدًا. أقوم بعملٍ أحتسب عليه أجرًا، فصار أجرين.
"قولٌ معروفٌ ومغفرةٌ خيرٌ من صدقةٍ يتبعها أذى".