خارج الصندوق

 

 

عائض الأحمد

في لحظاتٍ مُعيّنة تظنّ أنَّ فئةً من البشر قد انقرضت وتلاشت، ولم يعد لها أثر، وفجأة يطلّون أمامك كأنّك تعود إلى زمنٍ غابر. في الماضي، كان أهل المشرق يمرّرون ما يشاؤون لبُعد المسافة وضعف المتابعة وقلّة وسائل التواصل، وكان ذلك أمرًا مفهومًا في زمنٍ كنّا نتقصّى فيه أخبار حيّنا والأحياء المجاورة وكأنّنا ننشد المستحيل.

أما اليوم، وقد صار العالم قريةً صغيرةً، تصل الكلمة من أقصى الأرض إلى أدناها في لحظة، ومع ذلك لا يزال هناك من يختلق ويُدلّس، كأنّه يعتاش على وهمٍ قديم؛ يغمض عينيه ويرى ما لم يره الناس، يتغذّى على الوهم حتى يُصدّق نفسه، ويستشهد بأقوال من رحلوا، ويحلف لك أنّه شاهد عصرٍ، فيما هو غارق في ظلامٍ دامس لا يبصر فيه حتى أرنبة أنفه. ومع ذلك يحشر نفسه في كلّ صغيرةٍ وكبيرةٍ، لا لشيء سوى أن يُظهر حقده على من خالفه رأيًا أو توجّهًا أو أسلوبَ حياة.

ابتُلينا ببعض الإعلاميين الذين جعلوا المنابر بوقًا للتعصّب؛ يتلوّنون بحسب المصالح، ويُزيّنون الباطل بثوب الحق، يصفّقون اليوم لمن يُهاجمونه غدًا. كأنَّ رسالتهم خُلقت للهدم لا للبناء، وللتحريض لا للتنوير. كم من مرة شاهدنا قناة أو حسابًا على وسائل التواصل يروّج لمعلومة غير صحيحة، ليُحدث ضجة بين الناس، ويثير التعصب بين مختلف الأطراف، وكل ذلك تحت شعار "نقل الحقيقة".

وهناك من يعتقد أنّ الحقيقة حصرية، وأنه وحده من له الحق في امتلاكها، فيغلق أبواب النقاش ويُقيّد العقول بسلطته الوهمية.

ومع ذلك، ما زال هناك إعلاميون وكتّاب صادقون ينقلون الحقيقة بشجاعة، ويغرسون في الناس قيمة الصدق قبل الشهرة أو المكسب. فهناك من يثبت أنّ المنبر قد يكون أداة للتنوير، فمقالاتهم وتقاريرهم تكشف الحقائق، وتُسهم في توعية المجتمع، وتُعزز قيم الصدق والشفافية. فكن أنت المثال؛ وإن صعُب عليك قول الحق، فثق أنّ رسالتك ستصل قبل أن تحتاج إلى تصفيق أو اعتراض.

وإن كان لك منبر، أو منحك الله قدرةً، فاجعلها رسالةَ خيرٍ ومحبةٍ، واسعَ جاهدًا في جمع الناس حولك ما استطعت، وإن كانت المشقّة عظيمة. فلكلٍّ منّا ميولٌ واهتمامات، ولن يتفق معك الجميع؛ لكن اجعل غايتك أن يحترموك قبل أن يوافقوك، ولا تُرغمهم على الخضوع لسطوة منبرك. فهل تظن أنّ العدل أن تخاطب انتماءهم وتتسلّق أهواءهم وتقصي الآخرين لما وقر في نفسك من حقدٍ تخفيه عن الناس؟

فالكلمة أمانة، والمنبر عهد؛ وما يخرج منك قد يحيي قلبًا أو يُميته. فاختر أن تكون شاهد خيرٍ لا شاهد زور، وبانيًا للجسور لا هادمًا لها. لتكن كلمتك نورًا في عتمة، لا صرخةً في فراغ، ولكل فعل نية صافية تبقى بعد أن يزول كل ضجيج.

لها: سعادتك ليست في شقاء الآخرين، وإيمانك لن يُجبر عثراتهم أيضًا.

شيء من ذاته: ثلاث تورث ثلاثًا: الحديث في السياسة يزرع النفاق، والحديث في الدين يُثير الفتنة، والحديث في الرياضة يُوقظ التعصب.

نقد: أو لم تسمع أنّ الأمة لا تجتمع على باطل؟

الأكثر قراءة