الحكومات ليست بشرا

 

 

إسماعيل بن شهاب البلوشي

 

في عالمٍ تتسارع فيه الأحداث وتتبدل فيه الموازين، يكثر الحديث عن الحكومات وكأنَّها أشخاص من لحمٍ ودم، تمتلك القدرة على القرار والإصلاح والتغيير بجرة قلم أو بإشارة من مسؤول. هذه النظرة المُبسطة والمثالية تغيب عنها حقيقة جوهرية: أنَّ الحكومات ليست بشرًا، وإنما هي منظومة مركبة من أدوات، ونظم، وعلاقات اجتماعية واقتصادية، وثقافة مجتمعية متراكمة، تشكل جميعها كيان الدولة ومصدر قوتها أو ضعفها.

من الخطأ أن نختصر مفهوم الحكومة في أشخاصٍ يجلسون على مقاعد القرار، فهؤلاء مهما بلغت إرادتهم يظلون جزءًا من منظومةٍ أوسع تحكمها القوانين والعادات والمؤسسات والسلوك الجمعي للأفراد. إنّ الإنسان يمكنه أن يضع القوانين، لكنه لا يستطيع أن يضمن التزام النَّاس بها أو احترامهم لها ما لم تتغلغل قيم النظام والانضباط في نفوسهم. ولهذا فإنَّ التغيير الحقيقي لا يبدأ من رأس الهرم فقط، بل من القاعدة التي تشكل روح المجتمع.

لقد أظهرت الدراسات التاريخية أنَّ المجتمعات التي تطورت لم تفعل ذلك بقرارٍ مُفاجئ، وإنما عبر تراكم طويل من الوعي، والإيمان بالعمل، واحترام القوانين، وتقدير الوقت، والتزام السلوك العام بروح المسؤولية. فالحكومة الناجحة لا تصنع شعبًا ناجحًا، بل الشعب الواعي هو الذي يصنع حكومة قوية وراسخة. وحين يغيب هذا الوعي، تتحول المؤسسات إلى هياكل شكلية، وتصبح القوانين أوراقًا بلا روح، فتسود الفوضى ويتفشى الاستهتار وتضيع الثقة بين المُواطن والدولة.

كثيرون يظنون أنَّ الفقر أو التراجع الاقتصادي سببه قرارات حكومية فقط، بينما الحقيقة أن الاقتصاد هو نتاج ثقافة المجتمع في الاستهلاك والإنتاج والادخار والتباهي والإسراف؛ فحين يتباهى الناس بما يملكون أكثر مما يعملون، وحين تغيب الحرفية ويُستهان بالجهد اليدوي والإتقان، يصبح طريق الرفاه بعيد المنال مهما كانت الثروات. إنّ سلوك الأفراد في إنفاق المال واحترام العمل لا يقل أهمية عن خطط التنمية والموازنات العامة؛ بل هو حجر الأساس في بناء دولة مزدهرة ومستقرة.

ومن بين المفاهيم المغلوطة أيضًا الاعتقاد بأنَّ الدولة يمكن أن تتغير بظهور مسؤول جديد، أو وزيرٍ مُختلف، أو بتعديل قانونٍ هنا أو هناك. إنّ ما يُسمى بـ«الدولة العميقة» ليس مؤامرة خفية؛ بل هو نتاج تراكماتٍ اجتماعية وإدارية وثقافية، تشكَّلت على مدى عقود. هذه التراكمات هي التي تحدد إيقاع العمل وطبيعة الأداء؛ فالإصلاح لا يتحقق بالشعارات، وإنما بتفكيك العادات السلبية وإعادة بناء القيم الإنتاجية والأخلاقية داخل المجتمع ومؤسساته.

حين نطالب بالتغيير، علينا أن نفهم أن الحكومة مرآة لشعبها؛ فإذا ساد بين الناس التذمر والكسل والاستهتار بالقوانين، انعكست هذه الصفات على المؤسسات نفسها. أما إذا ساد فيهم حب العمل، واحترام المواعيد، والتفاني في الإنتاج، فستجد أن الجهاز الحكومي يصبح تلقائيًا أكثر انضباطًا وكفاءة. الدولة ليست جسدًا منفصلًا عن مواطنيها؛ بل هي مجموع سلوكهم اليومي وإيمانهم بالمسؤولية العامة.

إنّ الوصول إلى مجتمع متوازن ومزدهر لا يتم بقرارات فوقية فقط، بل بالتزامٍ جماعيٍ متواصل من كل فرد في منظومة الوطن. فحين يؤدي كل إنسان دوره بصدق وإتقان، يبدأ التغيير الحقيقي من القاعدة إلى القمة، لا العكس. وحين تتحول القيم إلى سلوك، والأخلاق إلى ممارسة، يصبح الإصلاح تلقائيًا وليس فرضًا.

ولذلك..؟ فإن دعوة الإصلاح لا ينبغي أن تُوجَّه للحكومات وحدها؛ بل لكل مواطنٍ في بيته، ومدرسته، ومكتبه، وشارعه؛ فالإصلاح مسؤولية جماعية لا تُختصر في القرارات ولا في الأشخاص، وإنما هي ثقافة تُغرس في النفوس وتُمارس في الحياة اليومية.

في النهاية، الحكومات ليست بشرًا، ولكن البشر هم الذين يصنعون الحكومات، ويشكلون صورتها، ويحددون مصيرها. فإذا أردنا رفاهًا حقيقيًا، فلنبدأ بإصلاح ذواتنا وسلوكنا، لأنَّ ما في الخارج ليس إلا انعكاس لما في الداخل. وبذلك فقط نكون قد فهمنا جوهر المعادلة بين الإنسان والدولة، بين السلطة والمجتمع، بين القرار والإرادة.

الأكثر قراءة