مُزنة المسافر
هل يعرف أبو الهول بوقوفه ذلك أنه استلقاءٌ أخيرٌ ليس فيه حركة نحو أي مجهول، لقد مكث ومكث لقرونٍ، فمن يشعر تجاهه بالحنين؟ إنه يسأل كل السائلين والعابرين إن كانوا يفهمون أنه واقف هناك للأبد، وأنه مخلوق لا يحرس فقط الجيزة؛ بل يحرس كل النفوس المليئة بالحيرة.
عزمي: مشغول بإيه يا رمزي بيه؟
قال عزمي بيه هذا الكلام أمام رمزي ابنه، وقلب الجورنال (الجريدة) في بادرة منه أن ينشغل عنه قليلًا، تكلَّم رمزي عن أن نوسة شخصية فريدة من نوعها، أضاف عزمي بيه: نعم إنها بنت لطيفة.
لقد اختلفت أفكارها ومشاعرها عن الماضي، إنها تتكون وتتشكل، إنها ترفض حفلات الشاي والجاتوه، تقول له إن ضيوف نازلي هانم يُشعرونك بالملل، هل لأنهم أكابر؟
هي تراقب حفلات نازلي هانم من ثقب صغير في المطبخ تظهر من خلاله الجنينة، ترى هي الناس الأكابر والأُبهة وهم يضحكون ضحكات متوالية، لكنها غير حقيقية، لا تنبع من القلب ولا تأتي من مُهجة الفؤاد، لن ينجرف لضحكاتها أمام الضيوف، إنه يتمالك أعصابه، إنه ثابت في شعوره وأفكاره نحو الضيوف وعالم والده ووالدته، لا شيء مضحك هنا يا نوسة.
نوسة: إنك مثل أبو الهول، تحرك قليلًا كما أنا أميل.
رمزي: عليَّ أن أكون ثابتًا في قراراتي، تعلمي أن تكوني مثلي.
كيف تصير هي نحتٌ بهَيلَمانٍ كبير وهي كائن صغير؟ قد يكون رمزي بيه خير مثال لشيء ثابت، فهو ثابت في مبادئه وقيمِهِ وصورِهِ للحياة، وهل ستحركه الريح يمنة ويسرى؟ وهل ستدخل أذنيه لتهمس له بأفكار الفقراء، وتُخبره عن الفلاحين الماضين في غضب كبير نحو البيه الكبير، وهل يود أن يسمع ناي الفلاحين وهو يواسيهم على الماهيَّة الجديدة التي وضعها عزمي بيه، إنها قليلة جدًا، وهل جاء يشمت في حمدي المجنون الذي أراد ألف مرة دفن نفسه وسط حقل الفُل، أم جاء يقول إنه أبو الهول الذي لن يتحرك من أجل أحد، وسيراقب الأمور فقط.
لكن لا يا نوسة، تأويلاتك خاطئة، قلبه يشرق ويغرب كل يوم وليلة، لقد صار غلامًا أكبر في الحجم وعينه متوقدة، يراكِ بين طيات الحياة تكبرين، ويراكِ بين الأشجار تزهرين.
هل يغار رمزي بيه عليكِ أم منكِ؟
وما هي الغيرة يا نوسة؟
رمزي بيه يذهب إلى الطابق العلوي، ويعود سريعًا ليقدم صندوقًا به فستان قصير بقَصَّة ذات تقليعة إفرنجية، إنه فستان من دواليب الخواجات، ومن خزائن دُنياهم، ومن بيوت الموضة التي يعرفونها جيدًا، هل جلب لها هذا الفستان من متجر أنيق في تلك الأزقة الباريسية الضيقة؟
رمزي: أجدُ أن هذا الفستان يناسبكِ.
نوسة: هو لي؟!
رمزي: نعم طلبته من عمتي، كانت في باريس.
نوسة: حلو أوي! متشكرة يا رمزي بيه.
ضحكت نوسة، كانت ضحكة من القلب، إنها هنا تُقَهْقِه في غرفة ليس بها أحد، وخرجت بالفستان حافية القدمين، حتى أعادها رمزي إلى الغرفة من جديد وقدَّم لها حذاء زجاجيًا أجمل من ذلك الذي حصلت عليه ساندريلا.
بقيت نوسة في الغرفة الأنيقة، جدرانها بيضاء، وبها مرآة طويلة، وهنا وقفت نوسة أمام المرآة ونظرت إليها عروس النيل، علَّقت عروس النيل بسعادة غامرة.
عروس النيل: إيه الشياكة دي!
نوسة: رمزي أحضره لي.
عروس النيل: وسيحضرُ الكثير.
نوسة: حقًا.
عروس النيل: نعم بالتأكيد، كوني يا نوسة…
نوسة: في العين محروسة.
عروس النيل: وكوني له طرية كما هي البسبوسة.
نوسة: حاضر.
اختفت عروس النيل حين ظهر رمزي من جديد، عينيه تُناظر سعادة نوسة بالهدية، هي أجمل عطية على الإطلاق، قلبها يصهل بشدة، فرحتها عارمة أمام أفكاره الصارمة، إنها تود أن ترى هذه الهدايا دائمًا، وهو يريد اهتمامها وأن تكون حول حياته هائمة وعلى سرير عشقه أفضل نائمة.