الاحتراق الوظيفي وتأثيره على الكفاءة والإنتاجية

 

 

 

د. علي بن حمدان بن محمد البلوشي **

 

تمارس الإدارة ودوائر الموارد البشرية دورًا أساسيًا في صناعة بيئة العمل داخل المؤسسات؛ إذ إن نجاح أي مؤسسة لا يقوم فقط على الخطط والأهداف؛ بل على قدرتها على خلق جو عمل مريح ومحفز يجعل الموظف أكثر استعدادًا للعطاء.

والموظف يحتاج إلى التقدير والدعم بقدر حاجته إلى الراتب، ويحتاج إلى مساحة آمنة للتعبير بقدر حاجته إلى التعليمات. وعندما تغيب هذه المقومات، تبدأ المشكلات في الظهور، فيجد الموظفون أنفسهم بين حالتين متناقضتين: الاحترار الوظيفي أو الاحتراق الوظيفي.

والاحترار الوظيفي حالة تبدو في ظاهرها إيجابية؛ إذ يظهر الموظف حماسًا عاليًا للعمل ورغبة قوية في الإنجاز. لكنه أحيانًا يندفع أكثر مما يحتمل؛ فيُحمِّل نفسه فوق طاقتها ويهمل صحته وتوازنه الشخصي. هذا الحماس المفرط قد يستهلك طاقة الموظف سريعًا ويجعله عرضة للتعب والإجهاد المستمر. على الطرف الآخر يأتي الاحتراق الوظيفي، وهو حالة يفقد فيها الموظف شغفه بالعمل ويشعر بالإنهاك المستمر والإحباط وفقدان الدافعية، وغالبًا ما يقوده ذلك إلى ضعف الإنتاج وربما التفكير في ترك العمل.

هنا يظهر دور الإدارة ودوائر الموارد البشرية؛ فالإدارة التي تضع أهدافًا غير واقعية أو تكلف موظفيها بما يفوق قدراتهم، أو تهمل أنظمة التحفيز والتقدير، تدفع الموظف دون أن تدري إلى دائرة الاحتراق. وفي المقابل، إذا تركت المؤسسة الموظف الشغوف يتحمل مهام إضافية بلا تنظيم أو متابعة، فإنها تهيئ له بيئة الاحترار الوظيفي التي قد تقوده بدوره إلى الاحتراق.

والأمثلة على ذلك كثيرة في واقع المؤسسات: موظف متحمس يعمل لساعات طويلة على عدة مشاريع في وقت واحد، سرعان ما تظهر عليه علامات الإجهاد رغم استمراره في الحماس. وفي المقابل، موظف آخر لا يجد تقديرًا لجهده ولا وضوحًا لمساره الوظيفي، فيفقد اهتمامه ويبدأ أداؤه في التراجع.

وأسباب الوصول إلى هذه الحالات متعددة؛ فحالة الاحترار تنشأ غالبًا من طموح زائد أو ضعف في إدارة الوقت أو رغبة في إرضاء الإدارة بشكل مبالغ فيه. أما الاحتراق فيرتبط عادة بضغط العمل المستمر، غياب العدالة في توزيع المهام، ضعف التواصل بين الإدارة والموظفين، أو غياب التقدير. والنتيجة واحدة: بيئة عمل أقل إنتاجية، وأداء متراجع لا يرضي المؤسسة ولا يحقق طموحات موظفيها.

ولكي تتجنب المؤسسات هذه النتائج السلبية، فإن عليها أن تضع سياسات واقعية وواضحة. الإدارة مطالبة بالاعتراف بجهود موظفيها، وتقدير عطائهم ماديًا ومعنويًا. كما أن برامج التدريب والتطوير ضرورية لتزويد الموظفين بمهارات إدارة الوقت والتعامل مع الضغوط.

ومن المهم أيضًا أن يكون هناك تواصل مفتوح بين الإدارة والعاملين، يتيح لهم التعبير عن التحديات والمشكلات دون خوف أو تردد. وإلى جانب ذلك، يمكن للمؤسسات تعزيز التوازن بين الحياة والعمل من خلال مرونة في ساعات الدوام، ومنح إجازات دورية مدروسة. والاهتمام بالصحة النفسية للموظفين أصبح اليوم ضرورة لا رفاهية، من خلال مبادرات دعم أو جلسات استشارية تتيح لهم استعادة توازنهم.

خلاصة الأمر أن الاحترار الوظيفي قد يبدو في بدايته مؤشرًا جيدًا على الحماس والطموح، لكنه إذا لم يجد من يوجهه قد ينتهي إلى الاحتراق. وكلاهما في النهاية يؤدي إلى النتيجة نفسها: انخفاض الأداء وخسارة المؤسسة لطاقاتها. ولذا فإن الإدارة الواعية هي التي تدرك أن الاستثمار في رضا الموظفين لا يقل أهمية عن الاستثمار في خطط العمل. والمؤسسات التي تضع موظفيها في قلب الاهتمام، وتوفر لهم بيئة محفزة ومتوازنة، هي المؤسسات التي تضمن الاستدامة وتحقق التميز في أدائها على المدى البعيد.

** أستاذ مساعد بالكلية الحديثة للتجارة والعلوم

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة