مدرين المكتومية
دائمًا ما نلتقي في هذه الحياة بأناس يرتدون ملابس أنيقة مُرتبة ويضعون أثمن العطور ويتزينون بأغلى الحُلي والمجوهرات، بمفرداتهم المنتقاة وطريقة حديثهم المُنمقة يشعرونك أنهم في عرض أزياء لغوي، هُم يمتلكون القدرة على ترتيب الكلام وجذب الأنظار لكل ما يقولونه وما يقومون به من أفعال، ابتساماتهم الصفراء تصرخ من شدة زيفها، يحتلون الصدارة في نشرات الأخبار أو منصات التواصل الاجتماعي، يتحدثون بطريقة مُميزة، وهندام ينم عن رغد العيش والحياة المُرفَّهة التي تُبهر العين.
لكن خلف هذه الستائر المُعتمة، تتكشف الوجوه الحقيقية، وكأنهم يعيشون حياة الحفلات التنكرية؛ إذ إنِّهم في الحقيقة لا يُمجِّدون سوى المال، ولا يبحثون عن شيء سوى جمع الثروات بأيِّ طريقة، يحبونه حبًا جمًّا ويعبدونه بأساليب مدروسة وطرق شتى. المال بالنسبة لهم يمثل المعيار الذي يبنون عليه في قراراتهم ويؤسسون لعلاقاتهم، لذلك ينطبق عليهم قول الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾ (الفجر: 19).
إنَّ هؤلاء ليسوا بالضرورة الخارجين عن القانون الظاهر؛ بل إن كثيرين منهم يتقنون لعبة الظهور أكثر مما يتقنون فهم المسؤولية المُلقاة على عاتقهم والتي يجب أن يعملوا ليل نهار لتقديمها على أكمل وجه، يأكلون بشراهة ويهتمون بصحتهم كثيرا لكن ذلك لا يمنع من زيادة وزنهم كل يوم، وهو ليس فقط زيادة في المقاسات بل زيادة ثقل على المجتمع، فالانغماس في صورة معينة وشكل معين لا يعفي من المسألة الأخلاقية والأفعال، فكما يعلم الجميع أن الفساد لا يقاس دوما بما نلمسه ونتحسسه؛ بل أحيانا بما يهدم الثقة ويدمر العلاقات ويزعزع الجهد.
ومن المفارقات التي نعيشها أن هناك بعضاً من المسؤولين في كثير من القطاعات والمؤسسات لا يدركون حجم التعب والجهد والمعاناة التي قد يواجهها فريق معين أو مؤسسة بعينها تعمل ليل نهار لتقدم منتجاً معيناً أو خدمة بصورة لائقة ومميزة تبرز للجانب الآخر دوره وإجادته في عمل مُعين، فالفريق الذي يعمل ليل نهار يستنزف طاقة وجهدا ووقته وموارده ويواجه الكثير من العراقيل والبيروقراطية والتغيرات إلى جانب التأخر في الحصول على المتطلبات وربما تجاهل لكل ما يقدمونه، فيجدون أنفسهم أمام مسؤول يبحث عن الكمال في كل شيء دون أن يقدم ويمنح شيئا من التقدير والنتيجة النهائية هي أعمال مهدرة ومواهب لا مكان لها، ومؤسسات تخسر فرص لتكون شريكا حقيقيا مع بعضها البعض وتنسى أن هدفها الأسمى هو الوصول إلى المجتمع وخدمته.
ومن هنا فإن كل ذلك يسبب ويخلق مشكلة أخلاقية مزدوجة، أي أن أولئك الذين يستثمرون في تلميع أنفسهم ورسم صورة معينة ويعبدون المال ويُكيِّفونه لمصالحهم ويبررون من خلاله وجهات نظرهم وتصرفاتهم، هم أنفسهم من يعملون في منظومات إدارية تتعامل بطريقة بائسة وازدراء مع الذين يبذلون الجهد ويجتهدون في أعمالهم؛ حيث تطغى عليهم عنجهية الصلاحيات المطلقة، وذلك لا يقودنا إلى مكان سوى إضعاف النسيج العام في المؤسسات والمجتمع؛ فهو بذلك ينسف ثقة الناس والمجتمع، ويُهدر فرص النجاح والابتكار والتطوير.
ومن هنا فإنَّ واحدة من تلك المؤسسات التي يجب أن تُبنى معها شراكات كبيرة، هي الإعلام؛ لأن صوته واضح وحازم ومسموع، وعند دخول أي مؤسسة في مواجهة مع الإعلام؛ ستُمنى بالخسارة، لأنَّ الإعلام لا يُنافق ولا يُجامل على حساب ما يؤمن به من قيم ومبادئ، ويمارس مهامه وعمله بكل شفافية ومسؤولية، لأن قوته الحقيقية تنبع من إيمان الناس به، وتصديق المجتمع لكل كلمة يقولها أو ينشرها. ولذا لا أعلم سر الضغينة التي يحملها البعض تجاه الإعلام، هل لأنَّ العمل الصحفي والإعلامي قادر على كشف الحقائق ونشرها، باعتباره السلطة الرابعة في المجتمع، وهي سلطة تضامنية معنوية، لا تُساوِم ولا تُشترى بثمن؟!
وأخيرًا.. علينا أن نرفض ثقافة الظهور القائمة على نهج التسلُّق الكريه والمرفوض، وأولئك الذين يستغلون ظهور الآخرين من أجل سرد قصص نجاح وهمية وزائفة، وقد آن الأوان لكي يعلم المجتمع المؤسسات التي تكتب نجاحًا حقيقيًا وليس تلك التي تشتري النجاح وتبيعه وهمًا للمجتمع، ونؤكد أن الإعلام سيظل المرآة التي تعكس الصورة الحقيقية، مهما استخدم البعض مساحيق التجميل، وتغطت الوجوه باللون الأحمر أو البرتقالي.. فالحقيقة لها لون واحد يُدركها كل مُخلص ومُحب لهذا الوطن.