حاتم الطائي
◄ "حماس" تُكرِّس شرعيتها الوطنية بتوقيع الاتفاق بحضور ترامب وزعماء العالم
◄ لا بُد من محاسبة الاحتلال وزبانيته على جرائم الإبادة في غزة
◄ صمود الشعب الفلسطيني حقق النصر والاعتراف الدولي بفلسطين
بعد عامين من انطلاق "طوفان الأقصى" المجيد، وارتكاب جيش الاحتلال الصهيوني لأشنع جريمة إبادة جماعية في قطاع غزة، لن نخوض في جدليات النصر؛ إذ إنَّ الاستبسال التاريخي للمُقاومة والصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني الأعزل، يفوقان أي انتصار، خاصةً وأن المقاومة قد حققت النصر من اللحظة الأولى التي انطلق فيها هذا الطوفان العظيم؛ لأنَّه انتصار على الغطرسة التي ادّعت سرديةً بائدةً بوجود "جيش لا يُقهر"، وانتصار على التواطؤ الأمريكي والغربي الذي أراد وأد وتجميد القضية الفلسطينية إلى الأبد.. إنه انتصار ساحق على الاستعمار، وتحرُّر كامل ومُتكامل من براثن العقلية الإمبريالية، وتمرُّد غير مسبوق على سياسات التماهي مع العدو، ورفض قاطع لمسارات تدعي البحث عن السلام المفقود في زمن التطبيع المجاني وفتح السماوات والبحار والأسواق لكل ما هو صهيوني.
الاحتلال بقيادة بنيامين نتنياهو مجرم الحرب المطلوب للعدالة الدولية بموجب مذكرة اعتقال، ادعى كذبًا أنَّه يخوض هذه الحرب لاستعادة الأسرى والقضاء على المُقاومة، لكنه في حقيقة الأمر كان يخوض حرب إبادة وتطهير عرقي، وقد صرَّح بذلك زبانية هذا الاحتلال البربري، ووصل الأمر إلى المطالبة بقصف غزة بالسلاح النووي!
"طوفان الأقصى" نجح في تحويل إسرائيل إلى كيان منبوذ عالميًا، يبرأ الجميع منه، وتنسحب كبرى صناديق الاستثمار من مشروعاته، وتُقاطع الدول مُنتجاته. وفي المُقابل، أخفق هذا الكيان المجرم في مواصلة ادعاء المظلومية، بما في ذلك "معاداة السامية"، التي أضحت نكتة سخيفة لم يعد يُصدقها الغرب نفسه، وانقلب السحر على الساحر، وبات كل ما هو صهيوني وإسرائيلي في مرمى نيران الانتقاد والإدانة والرفض، فضلًا عن العُزلة غير المسبوقة. أما زبانية هذا الاحتلال، فقد تحولوا رسميًا إلى مجرمي حرب أمام المحكمة الجنائية الدولية، مُلاحقين في مُعظم دول العالم، لدرجة أن نجد طائرة نتنياهو تتخذ مسارات جوية غير معتادة لتفادي المرور في أجواء الدول الملتزمة بتطبيق "اتفاقية روما" لمُلاحقة مُجرمي الحرب.
واليوم، وضعت الحرب أوزارها وتراجع مجرم الحرب نتنياهو عن مواصلة حرب الإبادة، ورضخت أمريكا، لأن هناك شعب أبي رفض بكل كبرياء وعزة نفس أن يُقايض على حقه في الأرض، أو أن يتخلى عن حريته، أو أن يُهجَّر من وطنه، ليعيش غريبًا على أرض أخرى سيزعمون أنها وطن له، لكنه وطن الخواء والذُل. صمد الشعب الفلسطيني في مواجهة آلة حرب وإبادة لم يرَ التاريخ المُعاصر مثلها، ارتقى عشرات الآلاف من الشهداء، وأًصيب مئات الآلاف، وفُقِد الآلاف فوق الأرض وتحتها، وتهدمت البيوت والأبراج والمساجد والكنائس والمستشفيات والمدارس، سُوِّيت المباني بالتراب، لكن ذلك لم يفت في عضد الشعب الفلسطيني، الذي قرر التشبث بالأرض، وأعلنها صراحة "إما النصر أو الشهادة".
لقد أسهمت تضحيات أبناء الشعب الفلسطيني، في لفت أنظار العالم الذي انتفض من أجل العدالة والحرية لغزة، وهبت الجموع الحاشدة في مختلف العواصم حول العالم- ولا سيما العواصم الغربية- رفضًا لمذابح الاحتلال وحرب التجويع، ودعمًا لحق الشعب الفلسطيني في الحياة الكريمة الآمنة. والنتيجة أن أصبح لدينا إجماع دولي على عدالة القضية الفلسطينية، بعد أن كادت أن تُنسى بلا رجعة، وتعترف 158 دولة بالدولة الفلسطينية، وحق هذا الشعب المظلوم تاريخيًا في إقامة دولته المستقلة على أرضه التاريخية، وهي حقوق تكفلها وتؤكد عليها المواثيق الأُممية والشرعية الدولية وجميع الاتفاقيات ذات الصلة بالقضية. لذلك نُؤكد أننا أمام فرصة تاريخية ينبغي البناء عليها دبلوماسيًا وسياسيًا، لكي تنتقل من مجرد وعود إلى واقع ملموس على الأرض، لا سيما وأن معظم استطلاعات الرأي حول العالم، تؤكد التعاطف الكبير مع الشعب الفلسطيني، وخاصة في أوروبا وأمريكا وسط الأجيال الشابة، وهو ما يُفسِّر شراء الصهاينة لحصة كبيرة في شركة "تيك توك"، من أجل السيطرة على جيل الشباب، وما يصله من أفكار ومُعتقدات.
ومع إدراك الولايات المتحدة للمأزق الشديد الذي وقعت فيه بسبب دعمها غير المحدود لنتنياهو، والسمعة الدولية التي تراجعت، سارع ترامب إلى إلزام هذا المجرم بـ"اتفاق غزة"، والذي لا يعدو كونه نسخة متطورة من جميع مساعي وقف إطلاق النَّار على مدار عامين.
اليوم، نجد المقاومة بقيادة حركة حماس، تُكرِّس شرعيتها الوطنية في فلسطين، فبينما سعت إسرائيل وأمريكا إلى إقصاء المقاومة واستبعادها من مشهد "اليوم التالي"، تقف شامخةً بثقلها السياسي والعسكري في شرم الشيخ المصرية، لتوقيع الاتفاق، بحضور ترامب وزعماء عشرات الدول، في مشهد ستكون له دلالات غير مسبوقة، على مكانة المقاومة ودورها المستقبلي، وهذا اعتراف أمريكي وغربي بأهمية إشراك جميع مكونات الشعب الفلسطيني في صياغة مستقبله وبناء دولته المستقلة.
ومع الجهود المتواصلة لتنفيذ "اتفاق غزة"، لا يجب أن نغفل عن محاسبة قادة الكيان الصهيوني على جرائمهم بحق الشعب الفلسطيني، وإلزام المجتمع الدولي بتنفيذ مذكرات التوقيف التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية، وتوسيع هذه المذكرات لتشمل قادة آخرين شاركوا في الإبادة من أجل محاكمتهم، وهذه قضية في غاية الأهمية يجب على الفلسطينيين التركيز عليها، والانتصار فيها؛ إذ إنِّها معركة لا تقل عدالة عن معركة تحرير الأرض.
ويبقى القول.. إنَّ "طوفان الأقصى" كتب بالفعل تاريخًا جديدًا للقضية الفلسطينية، لكن ليس على هوى الصهاينة كما سعوا؛ بل وفق رؤية تحررية صادقة من الاستعمار؛ فإسرائيل خسرت القدرة على الردع وفقدت الرأي العام المُناصر لها، وبات مُناهضًا شرسًا، وأصبحت دولة مارِقة يقودها مجرمو حرب، وهي نتائج يتعين البناء عليها لكي يتحقق الوعد وننتصر لدماء الشهداء والقادة العظام الذين قاتلوا بكل شرف واستبسال حتى آخر نفسٍ.