د. هبة محمد العطار **
في السادس من أكتوبر 1973، لم تنتصر مصر بالسلاح وحده؛ بل انتصرت بالوعي؛ فالمعارك الحقيقية لا تبدأ عند دويّ المدافع، وإنما عند لحظة الإدراك الأولى بأن الهزيمة ليست قَدَرًا، وأنَّ الانكسار ليس خاتمة الوجود.
كان نصر أكتوبر، في جوهره، ثورة داخل الإنسان قبل أن يكون حربًا على الأرض، وثورة على اليأس، وعلى فكرة المستحيل، وعلى كل ما حاول أن يُقنع المصري بأنَّه فقد القدرة على النهوض من جديد.
لقد صنع المواطن المصريّ في ذلك اليوم مجده بوعي فلسفي عميق؛ حيث إنَّ القوة ليست في العدد والعتاد النّوعيّ، بل في إيمان الجندي بأن الأرض التي يقف عليها تستحق أن يُروى ترابها بدمه، وأن الجسور التي أقامها على طول القناة بين ضفتيها ليس من الحديد فحسب، بل من الإرادة التي أذابت الخوف وأعادت تعريف الممكن.
قبل العبور، كان الإعلام الإسرائيلي يُصدِّر للعالم، وللرأي العام العربي أيضًا، صورة زائفة عن خط بارليف المنيع الذي لا يُقهر، في محاولة لبناء جدار نفسي من الوهم قبل أن يبني جدارًا من الرمال والخرسانة، ليجعل من نفسه عملاقًا لا يُهزم. وكانت تلك معركة أخرى في الميدان الإعلاميّ، معركة على الوعي والإدراك؛ حيث بدأت الحرب تُدار بالكلمة قبل الرصاصة، وبالصورة قبل المدفع. لكن هذا الوهم تفتت أمام عبقرية العقل المصري، حين جاء مهندس من صفوف الجيش بفكرة بسيطة في شكلها، عميقة في أثرها، فحوّل مجرى الماء إلى أداة تحطيم، فذابت الرمال التي ظن العدو أنها تحميه، كما ذابت أسطورته التي طالما روّج لها إعلامه.
كانت معركة أكتوبر 1973م درسًا في فلسفة التحرر، إذ حررت الإنسان من داخله قبل أن تحرر الأرض من عدوها. فالمعنى الأسمى للعبور لم يكن عبور القناة فقط، بل عبور الأمة من مرحلة الشك إلى مرحلة الوعي، من الانكسار إلى الكبرياء، ومن الخضوع إلى السيادة. لقد أعاد نصر (السادس أكتوبر/ العاشر من رمضان 1393هـ) تعريف مفهوم النصر؛ فالنصر لم يكن مجرد استعادة أرضٍ مسلوبة؛ بل استعادة لكرامة الأمة، وثقتها بذاتها، وإيمانها بقدرتها على الفعل والتغيير. كان ذلك اليوم انتصارًا على الذاكرة المثقلة بالهزائم، وانتصارًا للروح التي رفضت أن تموت.
إنَّ نصر أكتوبر ليس حدثًا يخصّ التاريخ وحده؛ بل تجربة إنسانية متجددة، تُذكّرنا أنّ الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع بالإرادة، وأن كل جيل مطالب بعبورٍ من نوع آخر: عبور من الجهل إلى المعرفة، من التبعية إلى الابتكار، ومن التردد إلى المبادرة. ولعل أعظم ما تركه نصر أكتوبر لنا هو هذا الدرس الأبديّ: أن الأمم تُهزم حين تستسلم، وتنتصر حين تؤمن. فالإيمان، كما أثبته الجنديّ المصريّ في لحظة العبور، هو السلاح الذي لا ينفد، والسر الذي يجعل المستحيل ممكنًا، والصعب طريقًا إلى المجد.
واليوم، بعد عقود من النصر، تتبدل ساحات الحرب، لكن يظل الوعي هو السلاح؛ فالإعلام الذي روّج بالأمس لأسطورة خط بارليف المنيع هو نفسه الذي يُطلّ علينا اليوم بأقنعة جديدة، ويصنع الأوهام بتقنيات الذكاء الاصطناعي، ويُعيد تشكيل الحقائق في صورٍ مُفبركة ومقاطعٍ مُمنتجة بعناية، ليخوض حربًا أكثر خفاءً وخطورة: حربًا على الإدراك ذاته.
إنَّ من يتأمَّل نصر أكتوبر على الصهيونية العالمية المتجسدة في صورة إسرائيل يدرك أن معركة الوعي لا تنتهي، فبالأمس واجهنا حرب الصورة الزائفة بالسلاح والإيمان، واليوم نواجهها بالمعرفة والوعي النقديّ؛ فالعدو قد يتبدل شكله، لكن غايته تبقى واحدة: أن يُطفئ نور الحقيقة. وهنا، تظل رسالة أكتوبر حيّة في الوجدان المصريّ والعربيّ: أن الأمة التي استطاعت أن تحطم أسطورة الجيش الصهيونيّ الذي وصف نفسه: "بالذي لا يُقهر"، قادرة أن تكشف زيف كل خطابٍ إعلاميٍّ جديد يحاول أن يُقهر وعيها.
** أستاذة الإعلام بجامعة سوهاج في مصر، وجامعتي الملك عبد العزيز وأم القرى بالسعودية سابقًا