سالم بن محمد بن أحمد العبري
من مصادفات الأحداث أنها قد لا تكون ذات ارتباط فعليّ بشري، لكنني كمتأمل وملاحظ ومحلل لا يمكنني أن أقبل بالقول إن بعض الأحداث أو الوقائع تخرج عن قدر الله- عزَّ وجلَّ- لتقرير حقائق قد لا يخلص إلى حكمتها إلا البعض من عباده.
ومن هذه الوقائع أن تأتي إرادة الله بأن يُدفن خليفة رسول الله محمد- صلى الله عليه وسلم- أبو بكر صدّيق رحلته في الغار (ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)، وعمر بن الخطاب الذي كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يدعو ربه حين اشتداد الأذى (اللهمَّ أعِزَّ الإسلامَ بأحبِّ هذين الرجُلين إليك بأبي جهلٍ أو بعمرَ بنِ الخطابِ فكان أحبُّهما إلى اللهِ عمرَ بنَ الخطابِ) فجاء إيمان أبي حفص نصرًا وهيبة للإسلام، وكان بلال يؤذن بصوت عالٍ ولم يستطع أحدٌ أن يعترضه لأن ابن الخطاب حارسه وحارس نبي الإسلام.
وقد لا يمعن البعض أو الغالبية التأمل في كون من يأتي لزيارة (قبر النبي) فإنه يجد نفسه يسلم على خليفتيه (أبي بكر وعمر)، هذان الخليفتان اللذان نزَّههما الله من الفتنة ثم بشَّرهما رسول الله بأنهما سيكونان معه في التراب، وفي ظني أن كل المراجع والأقطاب والراسخون في العلم والمؤمنون الذين لا تُنزع رؤاهم الثابتة المُستيقِنة أنهما تنزَّها من الفتنة إذ حدثت، وهما بالتراب كما بشّرهما نبيهما وأصحابهما؛ إذ قال لهما: أنتما معي (بالتراب)، بينما نبّه الآخرين بما سيصيبهم من الفتنة المرتقبة، والتي نراها وقد شرحت أدوار كل من أتوا بعدها، وإن كنت أشير إلى ذلك. فإن نظرنا وربما تكريمنا لتلك الخليفتين لا يمكنه أن يمس قداسة، وأسبقية وعِظم دورهما في خدمة الإسلام، لكنها فتنة لا يعلم إلا الله ورسوله غايتها وابتلاءها.
وقد يكون الغرب الذي يكشر عن أنيابه دائمًا أكثر عداءً وأفظع في الحروب، حين دُعي زعماء ومؤسسو عدم الانحياز وهم ناصر وتيتو ونهرو وسوكارنو؛ لكن الشرق بقيادة الاتحاد السوفيتي كان أقل حدة وأكثر بصيرة وأكبر رغبة في تخفيف العداء والحروب وبناء علاقات أكثر احترامًا، وذلك تلبية لمتطلبات العالم الثالث النامي من الاحتياجات التنموية، والمالية اللازمة للنهوض الاقتصادي، بل كان أحرص على توفير الاحتياجات العسكرية الضرورية أيضًا لصد الاعتداءات الغاشمة الغربية والتي انتقلت من المحور البريطاني والفرنسي إلى أمريكا بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها وأصبح العالم أكثر بلورة، وخاصة بعد حرب السويس التي كانت الحرب الأولى على محور وفكر عبد الناصر وتقزيمًا لتأييده المعنوي والمادي، وذلك لدوره الثوري في قيادة حركات التحرر في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، ودعمه لأكبر ثورة في الشرق وهي الثورة الجزائرية وثورات الكونغو وفيتنام.
وجاءت معركة بناء السد العالي في مصر لتمثل أكبر برهان على السلوك الغربي العدائي والاستعماري والاقتصادي، وصار الغرب ينظر إلى جمال عبد الناصر ويراه عدوه الأول وذلك لما تمثله مصر من كاريزما وقاعدة وسطية ودورها العالمي في توعية الشعوب واستيعابها ودعم نضالاتها.
لكن الغرب والصهيونية العالمية ووكلاءها من محور الرجعية العربية لم تنم أعينهم ولم تستقر أنظمتها، إلا بتوجيه ضربات متتالية للناصرية أكثر من سابقتها؛ فمن حرب السويس إلى تدبير انفصال الوحدة العربية الأولى بين مصر وسوريا والتي كانت حلم كل المفكرين والمناضلين والطامحين، وصولًا إلى الطامة الكبرى في حزيران/يونيو 1967 والتي بدا لنا أنّ مصر عبد الناصر قد أفاقت منها بعد أيام معدودات؛ فكان إغراق (المدمرة الإسرائيلية بيت شيفع في ميناء إيلات) في أغسطس 1967، إيذانًا بدق ناقوس بانطلاق حرب الاستنزاف الشهيرة المؤثرة طوال 6 سنوات متتالية أذاقت إسرائيل ومن وراءها مرارة وغُصّة، وصارت شوكة في حلق إسرائيل.
وانشغلت إسرائيل وأتباعها وممولوها بمراقبة حياة جمال عبد الناصر وصحته وأمراض جسده وفحولته في هيئته وجهورية صوته وانتشار شعبيته بحيث استُغلت تجاريًا فكانت سجادات الصلاة تُزيّن بصوره ودلاء القهوة الحافظة للحرارة قد دارت رحاها شرقًا وغربًا، وكانت واحدة منها قد وصلت إلى مصيف (ولجة) جدي الشيخ أحمد بن سعيد العبري وكان قد جلبها (عمير بن تعيب) وأصبحت منظرًا يلفت نظر المارين والمهتمين.
وتحرّكت خفافيش الظلام لهدم صورة عبد الناصر المناضل في قلوب محبيه واستعرت الحرب الدعائية واستكتبوا الأقلام المأجورة وطبعوا الكتيبات الدعائية الكاذبة والمعلومات المزيفة والأخبار الملفقة ونسجوا خيوط فتنة جديدة على نموذج الفتنة الكبرى منذ 13 قرنًا، بهدف الإجهاز على جمال عبد الناصر وإرهاق جيشه بحروب هنا وهناك، وصدّ المقاومة، والتي لن تجعله ينام برهة وستنهش أمراض السكري والضغط، واستجاب لهما قلب ناصر حتى توقف بُعيد عشاء 27 سبتمبر 1970؛ لتبدأ الردة ويستمر الانحراف ويكبر الصغار وكما يقول- الوالد ياسر بن حارب على سبيل المزاح لبعض الآباء- (الغفّة نقضت).
وفي اليوم الذي توفي فيه عبد الناصر وهو يوم 28 سبتمبر، اختارت إسرائيل أن تغتال فيه السيد حسن نصر الله لنتذكر مقولة نصر الله الخالدة "نحن لا نهزم؛ فإن انتصرنا فهو النصر وإن قتلنا أو متنا فهي الشهادة"، وكما ودعته الجماهير العربية والإسلامية وملأت ميادين القاهرة وشوارعها التي غصّت بعشرات الوفود الرسمية العربية والإسلامية وأحرار العالم، اجتمعت في ساحات بيروت حشود مليونية للاحتفال بذكرى استشهاد السيد حسن نصر وتجديد عهد النضال والمقاومة.
وما يكاد الاستعمار وأعوانه يفرحون لعقد أو عقدين بعد وفاة عبد الناصر الذي انتشرت أفكاره في كل قُطر عربيّ حتى عادوا فدبروا رحلة القدس واحتلال بيروت ولبنان كله، وعادت حليمة إلى عادتها القديمة، وتحصنت إسرائيل بجنوب لبنان آملةً في الاستقرار هناك، وإذا المقاومة الوطنية يتقدمها (حزب الله) تخرج لها من عرينها بعقيدة كربلائية وتحت قيادة السيد حسن نصر الله.
وفي الأخير.. لنتذكر معًا بأن مقاومة الشعوب لا تموت وإذا ذهب عبد الناصر جاء الآلاف مثله؛ بل أشد شراسة ومن قبلهم اليعربي والمختاري والشابي والعديمي. "وما النصر إلا من عند الله".