أَسرى الأمس أم صُنّاع الغد؟

 

 

 

أحمد الفقيه العجيلي

اطلعتُ في أكثر من موضع على تجارب أمم جعلت من تاريخها نقطة انطلاق، لا قيدًا يجرها إلى الوراء. بينما نحن ـ وللأسف ـ ما زلنا نختلف على ماضٍ مضى، في الوقت الذي يُخطط فيه غيرنا للمئة عامٍ قادمة.

وهذا هو الفارق بين من يشق طريقه نحو المستقبل، ومن يظل أسير الأمس.

التاريخ مدرسة عظيمة، نعم، لكنه لا ينبغي أن يتحول إلى ساحة خصومات لا تنتهي.

تابعتُ في أكثر من نقاش كيف يُستنزف الوقت والجهد في جدل حول أحداث انقضت، بينما تُترك قضايا الحاضر والمُستقبل بلا عناية. وحين تصبح الذاكرة ميدان صراع، يتوقف الحاضر عن الحركة، ويضيع المستقبل في زحام اللوم.

لقد قرأتُ عن تجارب دول واجهت كوارث كبرى، لكنها لم تسمح لماضيها أن يكون نهاية المطاف.

ألمانيا مثلًا خرجت من حربين عالميتين مدمرتين، ومع ذلك نهضت لتصبح قوة صناعية واقتصادية كبرى.

اليابان التي تلقت أقسى هزيمة عسكرية نووية، أعادت بناء ذاتها لتصبح رمزًا للتفوق التكنولوجي والانضباط.

حتى رواندا، التي مزقتها الإبادة الجماعية في التسعينيات، استطاعت خلال عقود قليلة أن تُحوِّل جراحها إلى مشروع وطني يقوم على المصالحة والتنمية.

ولا يُمكن إغفال التجربة العُمانية الحديثة التي بدأت مطلع السبعينيات من القرن الماضي؛ فوسط واقع مليء بالتحديات، استطاعت أن تبني دولة حديثة في زمن قصير، مستندة إلى قراءة واقعية لماضيها، وتوجيه طاقاتها نحو التعليم والتنمية والبنية الأساسية.

لقد أثبتت أن النظر إلى الأمام هو السبيل لكتابة فصل جديد، بدل البقاء أسرى الخلافات أو اجترار الماضي.

الأمم العظيمة لا تُسجن في صفحات تاريخها، بل تقرأه بعقل واعٍ، وتجعل منه خريطة طريق للمستقبل. وهي تدرك أن بناء الغد يحتاج إلى عقول تنظر إلى الأمام، وإرادةٍ لا تُضيّع وقتها في خلافات عابرة.

إنَّ الماضي إن لم يُحوَّل إلى درس، تحوَّل إلى قيد، وإن لم يُفهم جيدًا... أعاد نفسه علينا.

وهنا يبقى السؤال الذي يطرق الأذهان: ألا يجدر بنا في عالمنا العربي أن نستلهم تلك التجارب، ونحرر خطواتنا من قيود الأمس، لنلحق بموكب الغد قبل أن يفوت الأوان؟

الزمن لا ينتظر المترددين، والمستقبل لا يُكتب إلا بأيدٍ تُمسك بقلمه اليوم.

والله من وراء القصد.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة