أنصفوا المُعلِّم!

 

 

د. محمد بن عوض المشيخي **

 

التعليم الحقيقي هو أساس نهوض الدول في مختلف المجالات الفكرية والاقتصادية والاجتماعية، فلا يمكن بأي حال من الأحوال رفع راية الوطن خفاقة وحجز مكان رفيع بين الأمم المتقدمة، بدون وضع استراتيجية واضحة المعالم لتمكين الأجيال المتعاقبة من الحصول على المعرفة التي تنطلق من القيم الدينية والوطنية والأخلاقية للمجتمع؛ وكذلك تجويد التحصيل الدراسي القائم على المنهجية العلمية الصلبة الذي يحلق بطلاب العلم نحو العُلا والتفوق والنجاح وتحقيق أعلى مراتب درجات العلم.
فإذا أردنا أن نتعرف عن قرب على واقع التعليم في بلدنا، فحجر الزاوية يبدأ من المنظومة التعليمية التي تعتمد بالدرجة الأولى على ثلاثة عناصر أساسية تتمثل في المناهج الدراسية، والطالب، والمُعلِّم الذي يعد العنصر الرئيسي وصمام الأمان لنجاح التعليم وازدهار المعرفة. من هنا تتجلى أهمية إعداد المُعلِّم المتمكن والكفؤ وتطوير المناهج والكتب الدراسية التي تتضمن آخر المستجدات العلمية، وقبل ذلك كله تهيئة المناخ الاجتماعي والنفسي والأخلاقي الذي يجعل طالب العلم محبًا ومقدرًا للدراسة ويحترم المُعلِّم، وهنا يكمن دور الأسرة التي يترعرع فيها التلاميذ لغرس القيم التربوية والأخلاقية وبناء جيل واعد يمكن الركون إليه في مستقبل الأمة؛ وليس فقط الحصول على شهادات ورقية يتباهى بها البعض أمام الآخرين؛ في الوقت الذي تغيب فيه المهارات الشخصية والمنهجية العلمية لهؤلاء الذين يتعرضون للنقد من حولهم؛ إذ يصفهم البعض من علية القوم بأنصاف المتعلمين؛ حيث يتم التركيز على الحفظ والتلقين الذي يتبخر من رؤوس معظم التلاميذ والدارسين مع مرور الأيام، بينما تغيب التجارب والخبرات والتفكير النقدي الذي يعمل على ترسيخ المعرفة والقيم التربوية في أذهان الدارسين.
ومن أهم المعضلات التي تواجه المُعلِّم في السلطنة، غياب الدافع للعمل في السلك التعليمي خاصة من الذكور؛ إذ أصبحت وظيفة المُعلِّم تذهب لمن لم يجد فرصة أفضل في المجالات الأخرى؛ فالمدرس في بلدنا يخرج من المدرسة ليذهب إلى السوق أو المنطقة الصناعية للبحث عن مصدر رزق إضافي لأسرته؛ فعلاوة التدريس متواضعة بكل المقاييس مقابل هذه المهنة المقدسة التي هي في الواقع مهنة الأنبياء. كما إن المكانة المقدسة للمُعلِّم أصبحت في هذا الزمن مفقودة، فلا يحظى المُعلِّم بالاحترام والتبجيل الذي يتردد على مسامعنا عبر تراثنا الخالد. هناك تجارب رائدة في إنصاف المُعلِّم وإعطائه حقه ومكانته التي يستحقها؛ كما هو الحال في الدول المتقدمة التي يبلغ فيها راتب المُعلِّم أكثر من راتب الوزير، بينما نحن نساوي المُعلِّم بالموظف العادي الذي أنهى الدراسة الجامعية. إن الرواتب المتدنية للمُعلِّمين قد جعلت هذه المهنة طاردة للخبرات والكوادر الأكاديمية، فأعداد المُعلِّمين الذين يطلبون ترك مهنة التدريس والانتقال إلى العمل الإداري والمكتبي في تزايد مستمر.
في منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة حضرتُ واحدًا من أكبر المؤتمرات لتطوير التعليم في الوطن العربي في بيروت، وتابعت كل المتحدثين من الوزراء ورؤساء الجامعات طوال 3 أيام ولم يكن في تلك أوراق العمل أي إشارة إلى أهمية مواصفات اختيار المُعلِّم وإعطائه حقه في الحوافز المالية التي تعتبر ضرورية في هذا المجال، وبالفعل وجهت كلامي إلى الجموع من صناع قرارات التعليم في بلاد العرب؛ بما فيهم وزير التربية والتعليم في السلطنة في ذلك الوقت، مؤكدًا للجميع بأن الجرح النازف في جسم الأمة يتمثل في تجاهلنا عبر العقود للشخص الذي يتولى تعليم الأجيال، فقد كان الرد على مداخلتي؛ قلة الموارد التي تخصص لقطاع التعليم من الحكومات مما ترتب على ذلك وجود كادر تدريسي أقل مستوى بالمقارنة بالدول التي تنعم بنهضة فكرية واقتصادية.
يجب التذكير هنا بأن التخلف في دول العالم الثالث سببه فشل النظام التعليمي وغياب جودة منظومة المعرفة التي يمكن الاعتماد عليها في بناء ما يعرف بالاقتصاد المعرفي الذي يعتمد على عقول الأجيال الواعية والمتسلحة بالعلم؛ الذي يعتمد على استخدام العلم والإبداع والابتكار في بناء الأوطان. لقد نهضت العديد من دول العالم شرقًا وغربًا بسبب انتهاجها سياسة تعليمية موفقة معتمدة في ذلك على التخطيط السليم، فاحتلت المراتب الأولى على مستوى جودة التعليم في العالم مثل فنلندا واليابان وسنغافورة؛ مما انعكس على تفوق هذه الشعوب ونجاحها في الاختراعات العلمية وتصدير التكنولوجيا لمختلف دول العالم؛ على الرغم من افتقادها للموارد الطبيعية الوطنية والمحلية، فأصبحت بفضل عقول أبنائها المخلصين والمجتهدين من طلاب العلم في مصاف الدول المتقدمة.
يبدو لي أن أهم الإخفاقات التي تواجه دولنا تتمثل في الخطط الطموحة التي تكتب بشكل جيد على الورق ثم تعقد لها المؤتمرات وتحظى بالتمجيد والإشادة، لكن في النهاية لا يُنفَّذ منها إلا القليل، وذلك لأسباب كثيرة منها عدم واقعيتها؛ كما إن هناك من يعتبر التدريس باللغة الإنجليزية بمثابة الرهان الرابح والجواز الذي لا يحتاج إلى تأشيرة للحصول على الوظائف؛ ويمكن القول إن الكثير من استراتيجيات التعليم لم تحقق معظم الأهداف المرسومة لها؛ وذلك لعدم الوقوف على الفرص والتحديات التي لا تجد المتابعة الكافية والاهتمام الكامل من المختصين في هذا المجال التربوي الهام، وذلك لانشغالهم بالمناصب والمسؤوليات الإدارية على حساب التخطيط السليم والتنفيذ الأمين للخطط التعليمية.
وفي الختام.. يجب إنصاف المُعلِّم في هذا البلد ووضعه في المنزلة التي يستحقها معنويًا وماديًا، فهو مُربِّي الأجيال وحامل راية العلم والمعرفة، ورفع راتبه أصبح من الضروريات لكي نمنحه الفرصة والوقت للتحضير العلمي للدروس، وشراء الكتب والأجهزة المناسبة التي تعينه على أداء واجبه المقدس، كما إن تحسين وضع المدرس ومضاعفة راتبه سوف يجعل من هذه المهنة جاذبة للمتميزين علميًا لدخول مهنة التدريس في المستقبل كما هو الحال في كثير من الدول المتقدمة في مجال التعليم.

 

** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري

الأكثر قراءة