خالد بن حمد الرواحي
بين خطط الاستدامة وأرقام الموازنات، يظل سؤال مُلح: هل تكفي أموال اليوم لبناء غدٍ أكثر أمانًا؟ الجواب لا يُكتب في الجداول وحدها، بل في أسلوب إدارة الموارد وانعكاسها المباشر على حياة المواطن. فحين يتأخر مشروع، أو تتراجع خدمة عامة بسبب نقص التمويل، يتساءل الناس ببساطة: أين ذهبت ميزانية الأمس؟
الاستدامة ليست مجرد حسابات جامدة، بل ثقافة إدارية ترى أن كل ريال يجب أن يترك أثرًا في حياة المجتمع. وهذا ما أكدت عليه رؤية عُمان 2040 حين جعلت كفاءة الإنفاق والشفافية ركيزة للتنمية؛ غير أنّ المبادئ تفقد قيمتها ما لم تُترجَم إلى مُمارسات فعلية.
ومن هنا يبرز التحدي الأكبر: الاعتماد المفرط على النفط والغاز. فبحسب توقعات ميزانية 2025، شكّلت هذه الإيرادات 68% من إجمالي الإيرادات العامة (7.6 مليارات ريال عُماني)، بينما لم تتجاوز الإيرادات غير النفطية 32%. ومع أول هبوط في أسعار النفط هذا العام، انخفضت الإيرادات الحكومية بنسبة 7% مُقارنة بالفترة نفسها من 2024، ما يؤكد قابلية الموازنة للتأثر بتقلبات الأسواق.
ولمواجهة ذلك، أطلقت الحكومة برنامج «استدامة» بأكثر من 70 مبادرة لتعزيز كفاءة الإنفاق وتنويع مصادر الدخل، وأُنشأت هيئة الخدمات المالية (FSA) للرقابة على الأسواق، وأصدرت الإطار المالي المستدام لإطلاق السندات الخضراء، وعزّزت دور جهاز الاستثمار العُماني وصندوق عُمان المستقبل لدعم المشاريع التنموية.
وقد أثبتت تجارب دول عدة في المنطقة والعالم أن بناء صناديق سيادية قوية وتنويع مصادر الدخل لا يقلّلان من تقلبات الأسواق فحسب، بل يرسّخان أيضًا قدرة الاقتصاد على مواجهة الأزمات وتحقيق استقرار مالي مستدام.
وبالتوازي، تسعى السلطنة إلى تنويع اقتصادها عبر السياحة واللوجستيات والصناعة والاقتصاد الرقمي، إلى جانب التوسع في الصناعات النفطية التحويلية. فتصنيع المشتقات والبتروكيماويات لا يضاعف الإيرادات ويوفر فرص عمل نوعية للشباب فحسب، بل يحقق أيضًا قيمة مضافة تعزّز موقع السلطنة في سلاسل القيمة العالمية.
غير أنَّ التنويع الاقتصادي، مهما كان واسعًا، لا يُحقِّق أهدافه ما لم يُدعَم بإصلاح مؤسسي وأدوات حديثة تدير هذه الموارد بكفاءة. فالعالم يتجه نحو الاعتماد على الذكاء الاصطناعي المالي وتحليل البيانات لتوجيه الموارد بدقة، كما تتجه الدول في الوقت نفسه إلى تبني أدوات مالية وتشريعية جديدة تعزز الاستقرار؛ فالاستدامة لا تتحقق بالأدوات التقنية وحدها، بل تتطلب حوكمة مالية صارمة ورقمنة شاملة للعمليات تضمن دقة الإنفاق وسرعة اتخاذ القرار.
وفي هذا السياق، أعلنت السلطنة تطبيق ضريبة الدخل على الأفراد بنسبة 5% على ذوي الدخول المرتفعة ابتداءً من عام 2028، بحيث تشمل نحو 1% فقط من السكان، مع الإبقاء على حدٍّ أدنى مُعفى يضمن حماية الطبقات الوسطى ومحدودي الدخل؛ ما يجعلها أداة لتعزيز الإيرادات وترسيخ العدالة الاجتماعية في الوقت نفسه.
وتبقى العدالة بين الفئات ركيزة أساسية، فالتدابير المالية ينبغي أن تراعي الطبقة الوسطى، كونها العمود الفقري للاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.
ومع ذلك، تظل حماية المواطن أولوية أساسية. فالاستدامة الحقيقية لا تتحقق إذا جاءت على حساب معيشته، بل عبر إدارة رشيدة للموارد وتنويع اقتصادي يضمن أن يشعر كل فرد بأن موارد الدولة تُدار لصالحه لا على حسابه. فالأرقام وحدها لا تكفي لقياس النجاح؛ إذ ينعكس غياب الاستدامة على الناس قبل أن يظهر في التقارير: ديون متزايدة، وخدمات متراجعة، وفرص عمل أقل.
ولذلك، فإنَّ معادلة الاستدامة لا تكتمل ما لم يتحقق توازنٌ دقيق بين خفض العجز وتقليص الدين العام من جهة، والحفاظ على حيوية القطاع الخاص من جهة أخرى؛ فالاستدانة المفرطة من البنوك المحلية قد تُرهق السوق وتُضعِف قدرة المُؤسسات على النمو والتوسع. كما إن خلق بيئة أعمال مستقرة وجاذبة للاستثمار يشكّل وجهًا آخر للاستدامة، إذ يمنح القطاع الخاص القدرة على التوسع والمساهمة الفاعلة في تمويل التنمية.
وتبقى الشفافية عنصرًا أساسيًا في بناء الثقة. فالمواطن يشارك في الإيرادات العامة، سواء عبر مساهمته لصندوق الحماية الاجتماعية، أو من خلال ضريبة القيمة المضافة، أو الضرائب المستقبلية على الدخل. ومن ثمّ، فإنَّ الإعلان بشفافية عن حجم هذه الإيرادات وتفاصيل أوجه صرفها يعزّز الثقة، ويجعل الاستدامة شراكةً حقيقيةً بين المؤسسات الحكومية والمجتمع.
لكن الشفافية تفقد قيمتها ما لم ترافقها رقابة فاعلة ومحاسبة واضحة تضمن حسن إدارة الموارد. وهنا يبرز الدور الحيوي للأجهزة الرقابية، وفي مُقدمتها جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة، الذي يمثل صمام أمان للتأكد من أن الموازنات ليست مجرد أرقام تُعرض، بل التزام يُحاسَب عليه المسؤولون أمام المجتمع، لضمان أن كل ريال يُنفق يذهب في مساره الصحيح.
فالاستدامة ليست التزامًا ماليًا حاضرًا فحسب، بل التزامًا أخلاقيًا تجاه الأجيال القادمة؛ فكل دين غير محسوب اليوم قد يعني تقليص فرص أبنائنا غدًا.
في الختام.. الاستدامة المالية ليست ترفًا اقتصاديًا؛ بل مشروعًا وطنيًا مشتركًا، نخُطُّ ملامحه اليوم في الموازنات، وسيقرؤه أبناؤنا غدًا في واقعهم: إمّا تنمية راسخة تحمي الأجيال، أو عجز يثقل كاهلهم لعقود. فالرهان الحقيقي ليس على الأرقام وحدها؛ بل على قدرتنا جميعًا أن نحوّلها إلى مستقبلٍ آمنٍ ومزدهر؛ فالمال وسيلة لبناء الإنسان، لا غاية في ذاته، والأجيال القادمة تستحق أن ترث اقتصادًا مستدامًا لا ديونًا مثقلة.