عروس مُهداة للنيل (2)

 

 

 

مُزنة المسافر

 

جاءت القوارب مُودِّعةً المرأة التي راحت بين طيَّات النيل، خنقوها أم قدَّموها كطبقٍ مُهدى للنيل، إنها المرة الأولى التي ترى فيه الموت بوضوح جليل، العيون خائفة وقلبها قد يوجعه الفراق.

نوسة تتأمل الجورنال (الجريدة) على الطاولة المستديرة في سراي عزمي بيه، تقف بجانب والدها عبد الرؤوف وهو يهز رأسه مرارًا للبيه الكبير.

عزمي: بتِئري كويس يا نوسة؟

نوسة: لم أتعلم بعد، لأني أعمل في حقل الفل، وأروي البُرتآن (البرتقال) في السراي.

حاول عبد الرؤوف تشتيت نوسة من أن تقول شيئًا غير لائق، لكنها أضافت بمكر لطيف.

نوسة: عزمي بيه، أريد كعك الفراولة اللذيذ.

عزمي: جاتوه فريز.. حالًا، اجلسي هنا وسيكون هنالك طبق في القريب العاجل يصل إلى معدتكِ الصغيرة.

نوسة: شكرًا يا عزمي بيه.

غاب عزمي بيه خلف بابٍ ما، وأمر أحدهم أن يُحضر كعك الفراولة لنوسة والشاي لوالدها، وهنا وبَّخها عبد الرؤوف بهمس عظيم: ماذا فعلتِ؟ قلت لكِ ألف مرة أن تلتزمي الحدود.

نوسة: طلبت كعك الفراولة لم أطلب ماء النيل كله.

صمت عبد الرؤوف، من يعلمها هذه الكلمات الكبيرة أوي، لم يتعلم في حياته أن يطلب شيئًا من أحد الأكابر، إنه فقط يحرث ويسقي ويزرع ويروي ويهز رأسه ألف مرة للقدر مهما كان هذا القدر.

لكن نوسة تعتبر نفسها محظوظة لأن النيل أحبها، وقدم لها عروسَهُ لتخبرها أن عين حورس تحرسها وقلب آمون يحميها، وأن مطالبها مُجابة في أسرع إجابة.

استعجب عبد الرؤوف من عزمي بيه، إنها المرة الأولى التي يغيب فيها خلف المطبخ ويأتي بطبق الكعك بنفسه، وتحجَّج بأن العاملين في المطبخ تشغلهم بعض الأمور، وأن السراي به أشغال كثيرة، وأنه مسرور للغاية أن يقدم لنوسة الصغيرة هدية بسيطة لابتسامتها اللطيفة.

إنها طَيِّبة مثل طِيبة.

إنها مثابرة مثل مينا.

هل ستأتي عروس النيل الليلة لتخبرها عن المدينة؟

لقد قالوا لها إن القاهرة تعُج بالناس وأنها منوَّرة بأهلها، وأن المدينة العريضة بها أمور كثيرة مثيرة، مثل مسرح وناس أكابر وأُبَّهة، وأنها تتمنى أن ترى ما سيخبرها رمزي بيه الصُغّير عن المدينة.

لقد راح مع والدته نازلي لزيارة جدته التي تقطن هناك والتي لها فهمٌ في الموسيقى وفُسحة من الوقت للمعنى والمغنى.

قال رمزي لنوسة إنه أحضر لها شيئًا.

فرحت نوسة، يا له من يوم، كعك فراولة وهدية أخرى!

ماذا يا رمزي؟

رمزي: لقد أحضرتُ لكِ علبة حياكة، قد تكون مفيدةً لتخيطي فستانًا ما.

ماذا يعتقد رمزي بيه أنها ستحيك؟ لا يمكن لنوسة أن تحيك أي شيء، لكنها أخذت العلبة الصغيرة للغاية واحتفظت بها، شكرته على مضض، علَّهُ يحضر لها دمية جميلة في المرة المقبلة.

 

لماذا تسكن الدمى الحلوة في المدينة؟ عانقها الفضول ولم يتركها أبدًا، أرادتْ أن تسمع من رمزي بيه كيف هي المدينة؟ كيف هي أبوابها؟ وأسواقها؟ وهل الناس يضعون الطرابيش فوق رؤوسهم؟ والنسوة بجلابيةٍ أم بفساتينَ فرنجيةٍ، وهل كل شيء مُنارٌ مثل فنار الإسكندرية.

قال لها رمزي بيه إنه أراد أن يبتاع لها فستانًا مثل فساتين النجمات، لكن والدته نوَّهت أن نوسة تلبس الجلابية القطنية، وأن القطن مريحٌ للفلاحة، انهار حلم نوسة أن يكون رمزي بيه مهتمًا أن تتبع نوسة الأزياء الفرنجية أو تكون معه بقبعة لها نصيبٌ من تقليعة جديدة.

غرقت نوسة في أفكار النجمات والسِتات، ونسيت أن عروس النيل قد تعاونها، وتخبرها عن طريقة ما تحرس فيها فستانًا جديدًا قد تحصل عليه من رمزي بيه.

نامت على السرير في ليلة هانئة باردة، ونسيم الريح يُحرِّك نفسه دون جهد كبير من المروحة التي راحت تُناظر وجه نوسة، هفت هنا، هفت هناك، الجو مُتقلِّبٌ، كما هو مزاج النيل الأزرق والذي يميل إلى زرقة غريبة حين تأتي العتمة.

عروس النيل: لقد جلب لكِ علبة حياكة، لتحيكي شيئًا جميلًا لكِ.

نوسة: لكنني لا أجيدُ الخياطة.

عروس النيل: تعلميها، سيكون لكِ هدية جديدة.

نوسة: أريدُ دمية!

عروس النيل: نامي الآن وسنتحدث غدًا.

نوسة! نوسة!

صراخ نعيمة يصل لكل الآذان.

إنها تصرخ أن الإبرة قد نالت من رجلها.

عروس النيل: صلِّحي ما فعلتيه، وكُوني يا نوسة في العين محروسة ووجهكِ يُكلِّله الجمال.

راحت عروس النيل بين طياته وصفحاته، ودخلت نوسة بخلسة المحظوظين إلى داخل منزل العريش، وهناك أزالتْ الإبرة عن رِجل والدتها، واعتذرت أنها ألقت بعلبة الحياكة في الأرض، مُتيقنةً أن عطايا النيل ستكون عطايا مُتدفقة غير ناضبة أبدًا.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة