علي بن مسعود المعشني
المشهد العربي اليوم في ظاهره مؤلم للغاية، وقد يُعده البعض من عرب زماننا بأنَّه نهاية حقيقية للعرب، وتغوُّل صهيوني غير مسبوق؛ فالصدمة كبيرة والوقع جَلَل بلا شك، لكنَّ هناك خبرًا وهناك ما وراء الخبر، وهناك فعل وهناك ردة فعل، وهناك هدف مُخطَّط له وهناك نتائج غير متوقعة.. هكذا يُعلِّمُنا التاريخ وسير الأحداث ودفع الأيام ودولها بين الناس، وما كان تكهنات وتخمينات وشكوك لدى البعض من عرب زماننا عن ماهية الكيان المؤقت ووظيفته في قلب الأمة، أصبح اليوم حقائقَ كالشمس في رابعة النهار.
ما يقوم به الكيان ورُعاته اليوم من عربدة وقتل وتشريد ودمار بقصد تحقيق الضربة القاضية في هذا النزال التاريخي بين الأمة والعدو، كان التفوق في حلقات هذا الصراع بالنقاط لصالح فصائل المقاومة؛ بل وحتى الوحدات العسكرية الرسمية منذ معركة الكرامة بين الجيش العربي الأردني وجيش العدو عام 1968م. جميع نزالاتنا العسكرية مع العدو كانت بالنقاط لصالحنا، ولكن الوهن السياسي للنظام الرسمي يُحيل تلك الانتصارات إلى هزائم سياسية نكراء.
ما يقوم به العدو اليوم يمكن تصنيفه في خانة الضربة القاضية للنظام الرسمي العربي في هذا الصراع، ولكن ما يؤرِّق العدو هو فصائل المقاومة والتي تُمثل إرادة الشعب العربي، ولا تخضع للنظام الرسمي. ويلوِّح قادة كيان العدو بخارطة ما تُسمى بـ"إسرائيل الكبرى"، والتي تضم أطرافًا من جغرافيات أقطار عربية عدة، والمتابع لحلقات وفصول الصراع العربي الصهيوني يُدرك أن شعار "من الفرات إلى النيل" كان أقرب إلى الحرب النفسية منه إلى الواقع، وأن حل الدولتين والتطبيع هما السقف الأعلى لحلم العدو، وهذا ما ترجمته صيغة "وديعة رابين" المقترحة للسلام مع سوريا، أي علاقات دبلوماسية مقابل احتلال كامل لهضبة الجولان.
يعتقد نتنياهو وشركاؤه اليوم أن حل الدولتين والتطبيع أدنى من طموحهم؛ بل أطلقوا على الأول وصف "الانتحار"، والثاني سموه "التطبيع الرسمي" مع النُظم دون الشعوب، وبالتالي أشهروا الجهر بالدولة الكبرى؛ لأنهم يعلمون أن النظام الرسمي العربي واهنٌ، وسيكون إلى جانبهم في مواجهة المقاومة ونزع سلاحها بالقوة.
من يرى المشهد من زوايا مُتعدِّدة يُدرك أن الغرب يتبادل الأدوار في واقع اليوم ويُدرك أنهم يستشعرون زوال الكيان ويلتمسون له عُمرًا افتراضيًا قد يكون طوق النجاة الأخير للكيان، وفرصة لالتقاط أنفاسه وترميم جسده المتهالِك منذ فجر "طوفان الأقصى"؛ الامر الذي دفع الكيان ورعاته إلى نقل الصراع بغلظة خارج جغرافية فلسطين، للحفاظ على ما تبقى من تجانس للجبهة الداخلية المُهترِئة.
مبادرة بعث حل الدولتين من باريس- العاصمة السياسية لأوروبا- ليست دعوة بريئة ولا صوتًا في البرية؛ بل خيارًا يحلمون بتحقيقه في لحظة ما، ولكن بشروط الكيان. والمناورة بما يسمى بـ"إسرائيل الكبرى" ليست سوى فصل من فصول الحرب النفسية ورفع سقف المطالب للحصول على المطلب الخفي والمتمثل في حل الدولتين، وتهجير فلسطينيي الـ48، إلى دولة فلسطينية منزوعة السلاح.
الكيان الصهيوني ورعاته يعلمون جيدًا أنَّه لا يمكنهم تمرير حل الدولتين وفق شروطهم ولا تحقيق وَهْم "إسرائيل الكبرى" إلّا بمعجزة تدمير إيران ومحور المُقاومة بكامله.
مُبالغة الكيان الصهيوني في عربدته وقتله وتدميره سيُحرِّض على قيام المزيد من فصائل المقاومة في جغرافيات عربية غير متوقعة، تمامًا كما أتت الظروف التاريخية من رحم المعاناة بالزعيم جمال عبد الناصر، وحزب الله وحركة أمل في لبنان، وفصائل المقاومة بغزة، وأنصار الله في اليمن، والحشد الشعبي بالعراق، وكما حلَّت إيران الثورة بديلًا عن مصر المخطوفة بكامب ديفيد عام 1979م.
قبل اللقاء.. ما يقوم به الكيان الصهيوني اليوم يُمثل سقف أفعاله، ولن يتمكن من تخطِّيها، والدور الفصل سيكون للطرف الآخر والذي لم يقُل كلمته بعد.
وبالشكر تدوم النعم.