حمد الصبحي
عن ماذا يمكن للمرء أن يكتب اليوم؟ عن زمنٍ مضى ولم يترك خلفه إلا غبار الخطى؟ عن نقد الأمل الذي صرنا نعلّقه كتعويذة، مع أننا نعرف أنه هشّ كقشرة بيضة؟ عن انكسار العمر حين يتشقق مثل فخّارٍ سقط من رفّ الذاكرة؟ أم عن ما تبقّى من العمر نفسه، ذلك الجزء الضئيل الذي يبدو كفتات أيامٍ تقع من يد الزمن فلا يلتقطها؟
لا شيء يمكن قوله أمام هذا الزحف الهائل، زحف العمر وتشظّيه كمرآة انكسرت في يد الحقيقة.
الكتابة، رغم كل ما تدّعيه من قوة، تنكسر هي الأخرى عندما تصطدم بفعل الواقع القاسي. تتراجع إلى الخلف كأنها كلمة مرتعشة في مخزن كبير للكذب، سنوات عمرنا تبدو فجأة كأنها كانت تُباع في أسواق رخيصة، تُفصَّل حسب رغباتنا في غرف الأمل المزينة بالأهازيج، كنّا نحيك حول أنفسنا أزمنة مستهلكة، نضعها في علب محكمة، لا تختلف كثيرًا عن علب السردين، تنتهي صلاحيتها أسرع مما نتخيل.
هذا الصباح استيقظتُ مذعورًا، وكأن العالم تذكّر فجأة قدرته على سحق الإنسان بضغطة زر، فكرة واحدة، مجرد خاطر عابر، كانت كافية لتوقظ كل الخواء داخلي: الراتب لم ينزل.
عندها فهمت أن الإنسان لا يحتاج إلى كارثة كبرى ليسقط في هاويته؛ يكفي تأخّر تحويل شهري صغير ليكشف هشاشته، ليقول له: أنت واقف على خيطٍ رقيق، وكل شيء حولك قابل للانهيار.
تساءلت طويلًا عن أولئك الذين يعيشون هذه اللحظة كل يوم: المعطّلون عن العمل، المسرّحون الذين طُردوا من نظام لا يعترف بوجودهم، الباحثون عن وظيفة كأنهم يبحثون عن معنى لحياتهم لا عن مصدر رزق.
كيف ينهض هؤلاء بلا راتب؟ بأي طاقة؟ بأي عزاء؟ كيف يقنعون أنفسهم أن الغد يستحق الانتظار وأن نهارًا آخر قادر على حملهم؟
اكتشفت يومها أن الراتب ليس ملاذًا، بل خداعٌ رحيم، يربّت على كتفك ليذكّرك بأنك ما تزال داخل اللعبة. وما إن ينقطع حتى تنكشف الحقيقة: العالم لا يدين لك بشيء، والصباح نفسه ليس وعدًا؛ بل سخرية جديدة من القدر.
رمضان يقترب، والناس منشغلون بزينة الأمل، يلمّعون قلوبهم بالأمنيات، يتحدّثون عن العيد القادم كأنه خلاصٌ صغير.
وأنا أرى في كل هذا احتفالًا يحمل مرثية خفية للفقر، كأن البشر يحاولون ستر قلقهم بالأضواء، يخفون عجزهم تحت قماش الفرح.
ما أقسى أن تستيقظ وأنت تعلم أن النهار لم يعد وعدًا بالعيش؛ بل تكرار للعجز نفسه.
إن البطالة ليست غياب العمل؛ بل حضور فراغٍ يجلس في أعماقك، يُحدّق فيك كل صباح ويسألك ذلك السؤال الأبدي الذي لا يريد أحد سماعه:
ما جدوى أن أستيقظ؟
ونتذكر سيوران في نقده للصباح؛ بأنه بداية مأساة جديدة، وكأن "الصباح يطل من وراء القرون".
