الطليعة الشحرية
بعد أن طنت الذبابة في الاجتماع الأول، وفرضت نفسها كما تُفرض الضوضاء على الهدوء، خرجتُ من القاعة مثقلة بالدهشة، قلت في نفسي:
- "إن كانت الذبابة تمثل صوت الضجيج، فلا بد أن أرى بعدُ من يمثل فنّ التلوّن".
ولم يطل الانتظار، فما هي إلا أيام قليلة حتى دخلتُ إلى اجتماعٍ آخر، فرأيت أمامي الحرباء تجلس في الصف الأول، تتهيأ للمشهد كمن يستعد لعرضٍ مسرحي.
كان وجهها مطليًّا بابتسامة مرنة، يمكن أن تتجمد أو تذوب حسب الحاجة. ثوبها بدا وكأنه نسيج سحري يتبدل لونه تبعًا لنبرة المدير، كأنها ليست بشرًا من لحم ودم، بل لوحة تمويه متحركة استعد بذاكرتي الى مشاهد سابقه عن الحرباء أولها في الممر..
المشهد الأول
مرّ المدير في الممرّ، فإذا بالحرباء تسابقنا جميعًا نحوه. قالت بصوتٍ هادئٍ رزين:
-"صباح الانضباط يا سيدي، لقد كنتُ منذ زمن أردد أن الصرامة هي سر النجاح".
ابتسم المدير وأومأ، فتلونت نبرتها بجدية تشبه الحديد. بعد أن مضى، التفتت إلى زميلة أخرى وقالت بخفة:
- "المدير الجديد ليس كمن سبقوه، يحتاج إلى مرونة كي يثق بالطاقم، سأثبت له أنني الأكثر قدرة على التكيف."
وقفتُ أرقبها بدهشة، في جملة واحدة جمعت بين صرامة الحديد ومرونة الماء...
المشهد الثاني في الاستراحة
في استراحة قصيرة، جلست الحرباء بين زملائها، تغيرت لغتها فجأة إلى نبرة شاعرية:
- "المؤسسة لا بد أن تكون كالشجرة، جذورها ثابتة لكن أغصانها تتمايل مع الريح، هكذا البقاء."
ضحكوا إعجابًا بكلامها، وأنا ابتسمت ساخرًا: أيهما هي؟ الجذر الصارم أم الغصن المتموج؟
استعدت انتباهي مع بداية الاجتماع اتأمل الحرباء التي جلست في الصف الأمامي، وجهها مطلي بابتسامة مرنة، وبدلتها تتغير مع أنفاس المدير.
حين قال المدير:
-"الصرامة أساس النجاح"، نهضت الحرباء مصفقه...
ــ "أجل، الانضباط هو مفتاح كل نهضة، وأنا أول المؤمنين به!"
ثم بعد دقائق، حين قال المدير:
"-لكن لا بد من مرونة تفتح لنا أبواب الإبداع"،غيرت نبرتها وصوتها، وصاحت بحماسة أكبر:
ــ "صدقت سيدي، المرونة والإبداع هما ما كنت أنادي به منذ زمن بعيد!"
ابتسم المدير راضيًا، بينما ابتسمتُ أنا ساخرًا، بالأمس سمعتها تمجد النظام الصارم، واليوم صارت شاعرة للإبداع المرن.
بعد الاجتماع، اقتربت منها وقلت:
ــ "ألا ترين أنك تبدلين مواقفك كما تبدلين ألوانك؟"
فأجابت وهي ترفع حاجبيها بخبث:
ــ "أنا لا أبدّل مواقفي، بل أتكيف، ومن لا يتكيف مع المناخ، ينقرض."
كان كلامها يحمل منطقًا في ظاهره، لكني لمحت في عينيها خوفًا دفينًا، خوف من أن تُقصى إن قالت (لا)، خوف من أن تنكشف إن تمسكت بمبدأ، هي تعيش في قلقٍ دائم، فلا تعرف لنفسها لونًا ثابتًا، ولا تستطيع أن ترى في المرآة وجهًا واحدًا.
وفي داخلي سمعتها تناجي نفسها:
- "ما حاجتي إلى رأي إن كان الرأي يهدد بقائي؟ سأكون ظلًا للجميع، حتى أظل حاضرة".
تذكرت قول سقراط "الإنسان بلا مبدأ كالسفينة بلا دفة" الحرباء قد تنجو من العواصف بتلونها، لكنها لن تصل يومًا إلى ميناء.
قبل أن أغلق دفتري تلك الليلة، جلستُ أحاور نفسي كأنها رفيقٌ آخر:
- "ما أعجب هذا العالم يا أنا! كل وجهٍ فيه يتخفى وراء قناع، وكل نفسٍ تُبدّل جلدها بحسب المناخ. الذبابة طنينٌ في هيئة بشر، الحرباء تلونٌ في هيئة موظف، الببغاء صدى في ثوب متكلم، والقرد تسلّق في صورة طموح."
صمتُّ لحظة ثم سألت نفسي:
-"هل نحن حقًا أمام بشرٍ ذوي عقول؟ أم أننا نعيد ما في مملكة الحيوان من غرائز وألاعيب؟ أليست النفس البشرية أكثر تعقيدًا، أم أنها تعود إلى بساطة الحيوان حين يشتد خوفها أو يطغى طمعها؟"
أجابتني ذاتي بصوتٍ خافت:
- "النفس مرآة مزدوجة؛ فيها من نور الإنسان ما يسمو بها إلى المعنى، وفيها من ظلال الحيوان ما يُسقطها إلى الغريزة. وكلما غاب الوعي، غلب الحيوان على الإنسان، فصار المكتب غابة، والمؤسسة حديقة غرائب."
أطرقتُ برأسي، ثم كتبت آخر جملة:
"البشر كائنات معقّدة، تحمل في داخلها الفراشة والذباب، الحرباء والنملة، الطاووس والتمساح. ومهما تلونت وجوههم، فإنهم يكشفون عن أنفسهم في لحظة صدق أو وهم، فيبدو الإنسان مرآة للحيوان، والحيوان رمزًا للإنسان."
كتبتُ في دفتري:
"الحرباء لا تعيش لنفسها، بل لغيرها، تتغير لتبقى، لكنها تبقى بلا هوية، لونها مرهون بالآخرين، فلا أصل لها ولا معنى".