حمد الناصري
في الطرف الجنوبي من صحراء الربع الخالي وفي وطننا الحبيب العريق تقع مدينة التاريخ العتيق أوبار العظيمة التي لم يُخلق مثلها في البلاد.. والتي ورد ذكرها في القرآن العظيم في سورة الفجر.. هي مدينة إرم ذات العِماد.. مساكن قوم عاد، ذوو القوة والبطش الشديد والبُنية الجِسمانية الشِّداد الأقوياء، ذكرهم القرآن لعِظَم شِدّتهم وقوتهم وبُنية أجسادهم.
مدينة أوبار العظيمة "شصَر التاريخية" والتي تمّ اكتشاف موقعها بالصُدفة ومن صُوَر الأقمار الصناعية ومن التعرّف على عدة طرق أثرية تاريخية تنطلق من ذلك الموقع باتجاه بلاد الرافدين وهي طريق اللُّبان التاريخي العتيق "وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ" (الأحقاف: 21). والأحقاف من حِقْف وهو ما مالَ من الرمال أي الذي لا يستوي مثله.. وهذا ما ينطبق على مدينة شصَر التاريخية العتيقة.. وطريق اللُّبان الذي هو أقدم زمنًا وأعمق تاريخًا من طريق الحرير الذي ربط بين الشرق الأقصى "الصين" وبين أوروبا وآسيا الوسطى والشرق الأوسط، لآلاف من السنين قبل الميلاد، ويُعتقد بأنّ قوم عاد عاشوا بين الألف السادسة والسابعة قبل ظهور الحضارة الميلادية والتقاويم بالقرون الميلادية.
أوبار موقع تاريخي عظيم، يَبعد عن مدينة صلالة الأصالة 165 ـ 170 كم في الجزء الشمال الغربي من مدينة ثمريت الفضّية تتلألأ في النهار، كبريق هالة الشمس لامعة، بضوء بلّوري يلفت النظر، كأنها طبقات من جليد سحيقة ذابت على مساحتها البيضاوية، اكتُشف موقع شصَر بين عامي 1993 و1995، واعتبرهُ الباحثون مبدئيًا أكبر تجمّع للقوافل التجارية المُتجهة إلى حضارة ما بين النهرين عبر الربع الخالي، حيث اكتُشفت في ذات الموقع نقود تعود إلى عام 600 ق.م وقدّر عُمر الموقع بـ 18 ألف سنة ق.م. وقد ضُمّت إلى قائمة التراث العالمي منذ عام 2000م.
وذكرها كلوديوس بطليموس، أشهر عالم فلك يوناني في القرن الأول الميلادي 100 ـ 180م، وأشار في كتابه "المجسطي" والذي عرّف فيه عن مركزية الأرض ونظامه الفلكي، وساد لعدة قرون.. وذكرها ماركو بولو في القرن الثاني عشر الميلادي.. وسماها لورنس العرب بـ "أطلانتس الرمال" كناية عن قارة أطلانتس المفقودة ولدرجة أهميتها وثرائها وحجمها الضخم واحتوائها على كنوز ضخمة لم تكتشف بعد.
ولا تزال هناك معالم أثريّة قديمة يُعتقد بأنها بقايا مدينة "إرم ذات العِماد" التي ذكرت في القرآن العظيم، وقد كشفت أعمال الحفر والتنقيب في الموقع عن وجود مدينة أثرية قديمة يُعتقد أنها لمدينة "إرَم ذات العِماد" كما ذُكرت في النص القرآني.
وتُشير الحوليّات الآشورية في عهد سرجون الثاني في القرن الثامن قبل الميلاد إلى قبائل تقطن في أرض العرب نواحي شمال الحجاز وهم: Tamudi، Ibadidi، Hajapa، Marsimani، (تامودي، إيباديدي، حجابا ومارسيماني). وفي الأدب الغربي وردت في العديد من القصص لأدباء أوروبيين، منها رواية الكاتب الأمريكي هوارد فيليبس لافكرافت كإشارة إلى اسم المدينة The Nameless City، (المدينة التي بلا اسم) وفي روايات جيمس رولينز، وفرانك هربرت وشون مكمولين.
في بداية عام 1990، كتبت الصحف والجرائد العالمية ونشرت وسائل الإعلام تقارير صُحفية عن: "اكتشاف مدينة عربية أسطورية وهي مدينة الرمال أو أسطورة "عُبار" المُثيرة للاهتمام، تطابق ما أشار إليه القرآن العظيم.
ومنذ ذلك الحين، فإن العديد من الناس الذين كانوا يعتقدون أنّ قوم عاد الذين روى عنهم القرآن الكريم أو مدينة "عاد" الأسطورية، عادت لتثير الدهشة، فاكتشاف المدينة التاريخية العتيقة جاء على يد "نيكولاس كلاب" عالم الآثار الأمريكي المولود في 1 مايو 1936، هذا العالم الهاوي، ذُكر على ألسنة البدو بأنه مُغرم بكل ما هو عربي، مُثير للاهتمام ولديه فضول كبير، كما أنه منتج للأفلام الوثائقية. ومما أثار فضوله وجدله الواسع كتاب "أرابيا فيليكس" لمؤلفه بيرترام توماس عام 1932، وتوماس باحث إنجليزي، واسم "أرابيا فيليكس" هو اسم روماني يُشير إلى الجزيرة العربية، بين سلطنة عُمان وجنوب اليمن. وذكر ذلك في كتاب مذكرات رحلة بيرترام توماس إلى الربع الخالي من ظفار إلى قطر، كأول مُستشرق يَعبر صحراء الربع الخالي 1930 ـ 1931م "Arabia Felix".
وتمتاز رمال الربع الخالي بأنها أرض مباركة برمالها الذهبية وبمخزونها وكنوزها التي لا تنضب؛ حيث إنّ أهلها أشداء الجسم أقوياء البُنية اشتهروا بإنتاج اللّبان وكانوا وسطاء في تجارة التوابل بين بلاد الهند وشمال جزيرة العرب.. كما أشار توماس إلى اكتشاف آثار لمدينة يطلق عليها البدو: "عُبار" وقد أروه أثرًا لـ "طريق" يُؤدي إلى مدينة عُبار القديمة.
وقد اقتنع نيكولاس كلاب بما وصفه الرحالة الإنجليزي "توماس" عن مدينة عُبار التاريخية وبدأ بحثًا متواصلًا عما ذكره البدو لآثار مدينة موجودة.. وحين تحققت رغبته ووجد ما دلّ عليه البدو وما وصفه الرحالة توماس في كتابه، التحق بوكالة ناسا الفضائية وتمكّن من الحصول على صُور للمنطقة بأكملها بالقمر الصناعي. وقام نيكولاس كلاب بدراسة المخطوطات والوثائق والخرائط القديمة للمنطقة، بمكتبة "هنتنجتون" بكاليفورنيا في أمريكا، وبعد جُهد شاق، حصل على خريطة رسمها العالم الجغرافي اليوناني "بطليموس" عام 200 ميلادية تحدد المنطقة والطرق المؤدية إلى المدينة المخفية. وتوصّل أخيرًا إلى نتيجة أنّ آثارًا تتطابق مع الصُوَر القديمة وما وجد في المخطوطات القديمة ومطابقتها مع الخريطة ومع صُوَر التقطتها وكالة ناسا الفضائية عبر القمر الصناعي. وظهر أنّ ما اكتشفه من آثار وبقايا المدينة يتطابق مع ما جاء في نص القرآن الكريم عن قوم عاد ومدينة "إرَم" ذات العِماد، من شواهد خصوصًا الأعمدة الضخمة.
وقد أكد خبير آثار وأحد أعضاء البحث والحفر في الموقع "أن الأعمدة الضخمة تُعد من العلامات المُميزة لمدينة عُبار، ومدينة "إرَم" التي جاء بها القرآن العظيم وبالوصف الدقيق، ويُعتبر الاكتشاف مطابقًا للقرآن: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ﴾ (فُصّلت: 16).
فهل أدرك عُلماء الآثار كيفية دمار هذه المدينة؟
لقد توصّلوا في أبحاثهم التاريخية إلى أنّ مدينة إرم أو عُبار تعرّضت إلى عاصفة رملية عنيفة أدّت إلى غمْر المدينة بطبقات من الرمال وصلت سماكتها إلى حوالي 12 مترًا؛ بل إنّ قوم عاد أرضهم خصبة تمتلئ بأصناف الخيرات ولم تكن صحراء خالية سابقًا، وهذا ما أكده القرآن العظيم، قال تعالى على لسان نبي الله هود: "وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ" (الشعراء: 132). ومن القرآن نسترشد بأنّ تلك المنطقة الصحراوية كانت مزدهرة وغنية بالكنوز والخصب، ولكن تغيّرات مناخية حوّلتها إلى صحراء جافة.
والتقطت أقمار وكالة ناسا الأمريكية في عام 1990 صُوَرًا للمنطقة توضّح نظامًا مُعقدًا من القنوات والسدود القديمة، كانت موجودة في زمن قوم عاد. وتمّ تقدير وفورات الماء فيها بأنها تكفي لمئتي ألف شخص على الأقل.
الخُلاصة.. منطقة الشّصَر (أوبار) معْلم تاريخي مُهم بمحافظة ظفار وللسلطنة كوجهة سياحية لكل هُواة التاريخ والسياحة الانتقائية للتعرف على الآثار والمواقع التاريخية، ويتوقع أنه إذا تم الوصول إلى كل المدينة وآثارها؛ فسيكون أعظم كشف أثري في التاريخ وسيتجاوز كل الاكتشافات السابقة من حيث القِيْمة العِلْمية والمادية، أنّ أوبار هي شاهِد من شواهد عُمق الحضارة العُمانية الضاربة في عُمق التاريخ وتستحق أن نفتخر بها وبكل إرثنا الحضاري المجيد، إضافة لأنها ستصبح مصدرًا هائلًا للسياحة التاريخية وقُبْلة لكلّ من يعشق التاريخ والحضارة القديمين.