أنور خميس العريمي
نظرًا لأهمية الخبرة الفنية في كشف الحقائق وفك العُقَد وحلحلة الأمور المتشابكة أمام المحاكم وهيئات التحكيم في شتى القضايا المدنية والتجارية والجزائية والشرعية التي تتخللها جوانب ومسائل فنية وعلمية تخصصية بحتة يصعب على قضاة المحاكم والمحكمين غير المتخصصين فهمها وإدراك كنهها إلّا من خلال أهل الفن والاختصاص بتلك المسائل من أجل التيسير عليهم في الإثبات وفهم الوقائع الدقيقة للوصول إلى الحق البيّن ثم الفصل بالعدل والإنصاف بين أطراف الدعوى؛ لذلك اهتم المشرّع العماني بالخبرة الفنية لأهميتها الكبرى ونتائجها العظيمة في مساعدة القضاء لإحقاق الحق وإرساء العدل من خلال إظهار المبهم والغامض بتلك المسائل المهنية المتداخلة التي ليس بمقدور القضاة بحثها وتحقيقها فضلًا عن تجاوزها دون الاستعانة بأهل الخبرة والاختصاص في ذلك، فقد بوّب المشرّع في قانون الإثبات في المعاملات المدنية والتجارية الصادر بالمرسوم السلطاني برقم (68/ 2008) "الباب الثامن" الخاص بالخبرة وضمنه خمسة وعشرين مادة تعنى بإجراءاتها وأعمالها.
ونصت المادة (82) من القانون "للمحكمة من تلقاء نفسها أو بناء على طلب الخصوم أن تستعين بأهل الخبرة لتحقيق واقعة معينة في الدعوى أو إبداء رأيهم فيما يطرح فيها من مسائل فنية أو متخصصة دون المسائل القانونية".
لا شك أنّ إدارة إجراءات الخبرة من قبل المحكمة تبدأ منذ إصدار الحكم التمهيدي بتعيين خبير إلى إصدار الحكم النهائي القطعي.. أما إدارة الخبرة الفنية من قبل الخبير والتي نحن بصددها تبدأ بانتداب الخبير باسمه في الدعوى، حيث تتم دعوته من قبل المحكمة أو هيئة التحكيم وابلاغه لاستلام الحكم وخطاب التكليف باليد أو بالبريد الإلكتروني أو بالبريد التقليدي أو بأي طريقة أخرى معتبرة واطلاعه على ملف الدعوى بحيث يمكنه معرفة تفاصيل الدعوى ومضمونها إن كانت في ذات اختصاصه أم لا.
لذلك على الخبير الرد بالقبول والمضي في أعمال الخبرة إذا كانت ضمن اختصاصه أو الرد بالاعتذار عن قبول المهمة في مدة حددها القانون أقصاها خمسة أيام بعد استلام التكليف أو منطوق الحكم، على أن تكون الأعذار المقدمة منطقية ومقبولة لدى القاضي وبالمقارنة مع قضاء التحكيم فيكون الرد بالقبول أو بعدمه أسرع من ذلك، بحسبان أن السرعة من أبرز سماته في كل إجراءاته إلى صدور حكم التحكيم النهائي، على الرغم من المرونة الكبيرة التي يتميز بها عن القضاء العادي في جميع مراحله.
يتضمن منطوق الحكم التمهيدي الصادر من المحكمة أو من هيئة التحكيم كل ما يتعلق بالخبير المنتدب من أمور تساعده بالمباشرة في تنفيذ عمله كخارطة طريق ترشده لأعمال الخبرة، أهمها بيان قائمة المهام المكلف بها في أداء المأمورية وأجل لإيداع التقرير الفني ومبلغ أمانة الاتعاب وموعد الجلسة التالية لنظر الدعوى والمرافعة، وعلى ضوء ذلك يتم إدارة الخبرة الفنية، لذلك من أولوياتها التزام الخبير بمهام المأمورية الموكلة إليه بالتحقيق حول العناصر الفنية من ناحية تبيان كل مهمة على حده واعطاءها حقها في التحري والبحث المتعمق من جميع الجوانب بهدف الوصول إلى الإجابات الصحيحة لكل مسألة.
إدارة الخبرة تكون باتباع الخطوات المجدولة للمهام لإنجاز التقرير في وقته بدون تأخير، حيث يتم ذلك بموافقة الشكلية القانونية حسب الباب الثامن (الخبرة) من قانون الإثبات وبما جاء في مدونة قواعد سلوك الخبراء وخبراء الإفلاس الصادر بالقرار الوزاري رقم (113/ 2022) ولائحة تنظيم أعمال الخبرة الصادرة بالقرار الوزاري رقم (52/ 2022)، لذلك الواجب على الخبير الإلمام بالقواعد والأحكام القانونية والمبادئ القضائية واللوائح التنظيمية الخاصة بالخبرة الفنية لتجنب المخالفات القانونية التي تؤثر سلبًا على سير الإجراءات لا سيما عبر الطعن في شخص الخبير أو في تقريره من قبل الخصوم.
ومن الإجراءات المهمة بعد فترة القبول بالمأمورية دعوة الخصوم للاجتماع مع الخبير في خلال خمسة عشر يومًا كما حددها القانون، بحيث يمكن أن تكون المدة أقل من ذلك في حالة الاستعجال أو أكثر وفق تقدير الخبير لأعماله وأوقاته وظروف الدعوى وأطرافها باعتبار أن تلك الأوقات هي مجرد أوقات تنظيمية وليست إلزامية، وبالتالي من الأفضل أن تكون الاجتماعات معهم كل على حده لمنح كل طرف حقه بالكامل في الوقت الكافي للدفاع وسماع أقواله وإفاداته في توضيح كل نقطة في مطالباته وتدوينها في محضر الأقوال، بالإضافة إلى تجنب المصادمات بين الأطراف، كما أنّ على الخبير الاستماع لأقوال شهود الطرفين أو من يحضر معهم أو من يطلب هو حضورهم من غير حلف يمين وبالتالي تدوين محضر لشهاداتهم وإفاداتهم، حيث يجب عليه المساواة بين أطراف الخصومة في الدفاع والمواجهة من حيث اطلاعهم على الأدلة والمستندات المقدمة في الدعوى ويمكنّهم من الرد عليها بهدف تحقيق التوازن في إدارة الخبرة الفنية في سبيل الوصول إلى الحق وفهم الوقائع بصورة صحيحة.
إنّ استبعاد تلك الإجراءات تصبح الخبرة والعدم سواء إذا تم الطعن في التقرير أو في إجراءات الخبرة من أحد الخصوم ما يؤدي إلى البطلان، ومن الضروري بمكان منح الأطراف مهلة كافية عند دعوتهم للاجتماع وإعلانهم الإعلان الصحيح بالطرق الحديثة المتوافقة مع القانون ؛ كالفاكس أو بالبريد الالكتروني أو بالرسائل النصية أو خلال برامج التواصل الاجتماعي كبرنامج الواتساب مثلًا وما شابهها، وبالتأكيد هي أسرع في إيصال البلاغات مقارنتها بالبريد العادي والمسجل التقليديين على أن يكون قبل الموعد بأيام معدودة وفق تقديرات الخبير، ولا مانع من التنسيق معهم مسبقًا إذا كان ذلك ممكنًا لترتيب أوراقهم وتنظيم أوقاتهم وتهيئة الفرصة للتحضير للاجتماع، بالإضافة إلى توفير المستندات والأوراق الثبوتية، وكذلك لا مانع من الاجتماع مع الأطراف مرة أو مرتين أو ثلاث أو أكثر وكل ذلك يعتمد على ظروف الدعوى بشكل عام وطبيعتها.
تقيّد الخبير بما جاء في الحكم التمهيدي من متطلبات ومهام معينة ما هو إلا دليل على وعيه وفهمه للمسائل والتفاصيل التي تخفى على محكمة الموضوع وما تريده بالتحديد في تلك المهام عن غيرها من أمور النزاع، وبالتالي إذا رأى الخبير أن المدة المحددة لإنجاز المهام غير كافية، فله أن يطلب أجل إضافي بخطاب إلى القاضي أو لهيئة التحكيم يذكر فيه مبرراته بشأن التمديد مع تحديد مقدار المدة الاضافية، على أن تكون كافية ودون مبالغة للانتهاء من أعمال الخبرة، حيث أن المحكمة أو هيئة التحكيم لا يمكنها بحال من الأحوال إصدار الحكم النهائي القطعي في القضية إلا بعد ورود التقرير الفني إليها.
لا يحبذ للخبير الدخول في مهاترات لا معنى لها أو مجادلات لا طائل من وراءها مع أطراف النزاع أو مع ممثليهم، يضيع بها وقته الثمين، بل ينبغي حسم الأمور في الوقت المناسب، خاصة مع الطرف المماطل والمسوّف في حضور الاجتماعات أو المعاينات أو تسليم مستندات متعلقة بموضوع النزاع بهدف المحافظة على وقت الخبرة، طالما أنه قد تم إعلانه الإعلان الصحيح، ولا يترك مجالًا لضياع الوقت باعتباره مسؤولًا عن ذلك أمام المحكمة وفق ما جاء في المادة (93) من قانون الاثبات على أنه "يجب على الخبير أن يباشر أعماله ولو في غيبة الخصوم متى كانوا قد دعوا على الوجه الصحيح".
إنّ من الأمور الهامة جدًا في الخبرة الفنية زيارة موقع النزاع ومعاينته بحضور الطرفين للمواجهة والإدلاء بالإفادات إذا كان على سبيل المثال ؛ مشروع تحت الإنشاء أو مكتمل البناء بهدف التعرف على المشاكل والعيوب عن كثب وفحصها بالعين المجردة أو بالأجهزة الخاصة بتلك العيوب وحصر المعالم في الطبيعة خشية ضياعها وطمس حقيقتها في حال دعوى إثبات الحالة ثم التأكد من صحة تلك المعلومات والادعاءات الواردة في صحف الدعوى والمذكرات ومقارنتها بما تم الحصول عليه أثناء المعاينة من معلومات إضافية وملاحظات تفيد في النتيجة النهائية مع محضر موجز يصف حالة المشروع وإفادات الأطراف.
ولا يفوتنا في هذا المقام أيضًا إلا أن نشير أنه بإمكان الخبير عرض تسوية ودية أو صلح على الأطراف لحل النزاع ولكن ليس باعتبار أنّ هذا العرض من جملة المهام المنوطة إليه في المأمورية، وإنما من باب والصلح خير إذا رأى ذلك ممكنًا من خلال الوقائع والحيثيات، بحيث يمكنه مساعدتهم بالنصح والارشاد ويترك الأمر لهم لتسوية النزاع ولا يتدخل في تقريب وجهات النظر لأنه إن فعل ذلك سوف ينقلب دوره من خبير فني إلى وسيط أو موفق، لذا وجب التنبيه.
في حال توصل الطرفان إلى صلح أو حل ودي للنزاع، بالتالي يمكنهما رفع ذلك إلى القاضي وطلب وقف إجراءات الخبرة ثم يحكم بالتصديق عليه أو تقديم طلب إلى الخبير لإثبات محضر الصلح أو التسوية الودية في تقريره.
كثيرًا ما تواجه الخبير تحديات وعراقيل أثناء عملية الخبرة من قبل الخصوم أو من جهات حكومية أو خاصة ذات علاقة بموضوع النزاع من حيث عدم تسهيل مهمته للتحقق من بعض المعلومات الخاصة بعناصر النزاع بحجة أنها رسمية وسرية، وأنّ الجهة المعنية تطلب ضرورة مخاطبتها من قبل المحكمة لاطلاع الخبير على تلك المعلومات وتسليمه نسخ منها !!، وبالتالي السؤال الذي يطرح نفسه ؛ هل عند اضطرار الخبير لزيارة عدة جهات حكومية أو خاصة من أجل أداء مأموريته أن يطلب من المحكمة خطابات خاصة لكل جهة للمعاينة والاطلاع على الأوراق الرسمية والحصول على نسخ منها؟!
بديهيًا أنّ تلك الإجراءات سوف تؤدي إلى إطالة أمد الخبرة، وأيضًا في المقابل إذا لم تتوفر تلك المعلومات الهامة، سوف ينعكس سلبيًا على النتيجة النهائية، لذا من المصلحة الاستعانة بالمحكمة والتواصل مع أمانة السر في حال وقوع تلك المصاعب أو غيرها من التحديات لتجاوزها في أسرع وقت ممكن.
وهنا يثور التساؤل عمّا إذا كان خطاب التكليف وما يتضمنه من مهام واضحة ومن تصريح للخبير بالانتقال إلى أي جهة حكومية أو غير حكومية يلزم الانتقال إليها للاطلاع على ما بها من مستندات أو ملفات طالما كان ذلك موصلًا لوجه الحق في الدعوى، ألا يعد ذلك كافيًا في مواجهة تلك الجهات بالسماح له والاطلاع على ما لديها من معلومات تتعلق بالنزاع؟!
والتصريح للخبير من قبل المحكمة في ذلك ما هو إلا تطبيق لنص المادة (95) من قانون الإثبات بأنه: "لا يجوز لأية وزارة أو وحدة من وحدات الجهاز الإداري للدولة أو شركة أو جمعية أو مؤسسة أو أي من الأشخاص الطبيعية أو المعنوية الامتناع بغير مبرر قانوني عن إطلاع أهل الخبرة الذين تستعين بهم المحكمة على ما يلزم".
وأيضًا تطبيقًا لنص المادة (96) من ذات القانون: "على كل وزارة أو وحدة من وحدات الجهاز الإداري للدولة والشركات والجمعيات والمؤسسات وغيرها أن تيسر للعاملين لديها من الخبراء القيام بما كلفتهم به المحكمة"
إنّ الإدارة السليمة للخبرة الفنية لها إيجابيات عديدة منها على سبيل المثال ليس للحصر:
- التقيد بالتشريعات الخاصة بالخبرة.
- إنجاز التقرير الفني في الميعاد المحدد.
- تجنب الطعن على الخبير وتقريره.
- المساواة بين الأطراف في المواجهة والدفاع.
- إعطاء مسائل النزاع حقها في البحث والدراسة.
- تجاوز الصعوبات والتحديات بسهولة ويسر.
- تجنب الصدامات مع طرفي الخصومة.
- تجنب إطالة إجراءات الخبرة.
- التركيز على نطاق المأمورية وعدم تجاوزها.
- التواصل الجيد مع المحكمة.
- فهم وقائع وتفاصيل النزاع بشكل أفضل.
- المساهمة في تسريع صدور الحكم النهائي.
- المساهمة في تحقيق العدالة الناجزة.
بالتالي من ضروريات الخبرة أن يشمل التقرير على جميع الأعمال التي تم تنفيذها في كل مرحلة إلى النتيجة النهائية، والتي لا يجوز بأي حال من الأحوال الإفصاح عنها لأي طرف إلا بعد إيداع نسخ التقرير في أمانة السر.
وأخيرًا.. فإنّ إدارة الخبرة الفنية يجب أن تكون مقرونة بالصبر والجد والاجتهاد والتحلي بسعة الصدر في التعامل مع المواقف الصعبة بهدف تحقيق الغاية من تلك العملية.
** خبير هندسة مسح الكمیات ومحكم تجاري