العقل.. ذلك الكنز

 

 

د. صالح بن ناصر القاسمي

 

حين نتلو آيات الكتاب العزيز، نجد أن الخطاب الإلهي يوقظ فينا ملكة التفكير والتأمل، كما في قوله تعالى: "أفلا تعقلون" (البقرة: 44)، و"أفلا يتدبرون" (محمد: 24)، وهي عبارات قرآنية جاءت لتوقظ فينا ملكة التفكير، وتعيدنا إلى جوهر العقل الذي تكرر ذكره في القرآن الكريم أربع عشرة مرة، منها قوله تعالى: "أفلا يعقلون" (يس: 78). وتكرار هذه المفردة القرآنية دليل على مكانة العقل في بناء الوعي الإنساني وتوجيه السلوك البشري.

إن كلمة "العقل" بسيطة في نطقها، عظيمة في معناها، فرغم أن العلم لم يحدد مركزه النهائي بدقة، إلا أن الإنسان استطاع أن يرسم له صورة متخيلة باعتباره مركز الإدراك ومحل التفكير والتمييز وتحليل المعلومات. ومن خلاله يمارس اتخاذ القرارات التي تنظم مسار الحياة اليومية. ولذا جاء اللفظ القرآني "أفلا يتدبرون" ليشير إلى ضرورة تحليل المعلومات والبيانات قبل إصدار الحكم. لكن هذه العملية لا تكون دائمًا صائبة، فكثيرًا ما يقع الإنسان في الخطأ نتيجة قرار خاطئ اعتمد فيه على عقل غير مكتمل الرؤية. وهنا تتجلى رحمة الله، إذ لم يترك الإنسان رهينة لعقله وحده، بل بعث الرسل ليقودوا البشرية إلى الطريق المستقيم، طريق لا يتعارض مع الفطرة السوية.

لقد شغل موضوع العقل العالم بأسره منذ القدم، ولم يكن حكرًا على هذا العصر. فقد كان محل جدل عند الفلاسفة والمفكرين والباحثين في محاولاتهم لفهم مكنوناته وأسراره، وتأثيره في مسيرة الإنسان. وحتى اليوم، لم يتفق العلماء على تعريف نهائي للعقل، وسيبقى الجدل قائمًا إلى ما شاء الله. غير أن الجميع متفق على أنه الموجّه الرئيس للحياة ومصدر الوعي والإدراك.

وإذا ما انتقلنا إلى العقل باعتباره أداة التفكير والتدبير، فإن الحقيقة الثابتة التي لا جدال فيها هي أن كل الحضارات التي قامت عبر التاريخ لم تكن إلا نتاجًا للعقل البشري. فهو الذي استطاع أن يترجم الأفكار إلى واقع ملموس. والنشاط العقلي يعمل دائمًا في خطين متكاملين: الأول هو عقل موهوب بالفطرة ينتج الأفكار ابتداءً، والثاني هو عقل مجروح بالتجارب والآلام لكنه يستخرج من قسوة التجارب أفكارًا ثمينة تتحول إلى حقائق علمية ومعرفية.

ومن زاوية أخرى، فإن العقل هو المسؤول الأول عن تكوين الثقافات والاتجاهات الفردية والجماعية. فغالبًا ما تبدأ نواة التفكير من عقول المفكرين والعلماء والباحثين، ثم تتبناها المجتمعات، لتتحول مع مرور الوقت إلى ثقافة مترسخة يؤمن بها الناس حد الاعتقاد. وهنا يمكن أن نطلق على هذه الثقافة "عقل المجتمع" أو "العقل الجمعي".

وعبر التاريخ، ظهرت مصطلحات كبرى مثل: العقل الإسلامي، والعقل المسيحي، والعقل اليهودي. ثم أخذت المصطلحات تتطور إلى العقل الغربي، والعقل الشرقي، والعقل الأوروبي، والعقل الآسيوي، والعقل الإفريقي. ومع تبدل الأزمنة، صارت التصنيفات أكثر تفصيلًا، حتى أصبحنا نسمع عن عقول تُنسب إلى مناطق أو مجتمعات بعينها، مرتبطة بالتقسيمات الجغرافية والإقليمية، فيُطلق عليها وصف خاص يميزها عن غيرها. وكلما كثرت هذه التصنيفات، اتسعت الفجوة بين الأمم، وغلبت العصبية المقيتة، وكان الخاسر الأكبر هو وحدة الأمة الإسلامية والعربية، وهو ما لا يصب في مصلحة الإسلام ولا المسلمين.

والمقصود من "العقل" هنا ليس وجوده ككيان فحسب، بل طريقة التفكير ونظرة كل مجتمع إلى الأشياء والمواقف والحكم عليها من خلال ذلك المنظور. فالمجتمعات تتميز اليوم بعقلها، أي بأسلوبها الخاص في التفكير الذي يطبعها بثقافتها ومبادئها وأخلاقها.

ومن هنا يقال في النقاشات اليومية: "كن عقلانيًا" أو "أنت رجل عاقل"، والمراد من ذلك هو الدعوة إلى طريقة تفكير متزنة، وليس إنكار وجود العقل نفسه. فالناس يقصدون العملية الذهنية التي تقود إلى قرارات حكيمة، لا مجرد التمييز بين العاقل وغير العاقل.

إن العقل، في التصور الإسلامي، أمانة إلهية، وهبة عظيمة على الإنسان أن يصونها ويهذبها. فالعقل إذا استضاء بالوحي سار في مسار مستقيم يقود صاحبه إلى الهداية، أما إذا تُرك أسير الأهواء والغرور، فقد يقود إلى الضياع والتهلكة. ولهذا كان العقل في الإسلام شريكًا للوحي، لا خصمًا له، بل وسيلة لفهمه وتدبره.

كما أن العقل يتطور بالتجارب الإنسانية والمعرفة. فالإنسان يولد مزودًا بقدرة عقلية، لكنها تنضج مع الخبرة، وتزدهر بالعلم، وتزداد حكمة كلما تفاعلت مع الحياة. ولهذا نرى أن أعظم العقول هي تلك التي جمعت بين صفاء الفطرة، وعمق التجربة، وغزارة المعرفة.

إن لمجتمعنا هو الآخر عقلًا مميزًا، أي أسلوبًا خاصًا في التفكير، ينعكس على قراراته وسلوكه. غير أن الأفراد قد لا يدركون ذلك بوعي مباشر؛ إذ يعيشونه دون أن يتأملوه. ومن هنا تأتي أهمية الدراسات الاجتماعية والفكرية التي تحلل طريقة تفكير المجتمعات، وتكشف بصدق وشفافية صورة "العقل الجمعي" الذي يحكمها.

إن الاهتمام بهذه الدراسات لا يعني النقد السلبي بقدر ما يعني إدراك الذات، لأن معرفة طريقة تفكير المجتمع هي أول الطريق لإصلاحه وتطويره. فالعقل هو مرآة الحضارة، وهو البوصلة التي تحدد الاتجاه. وإذا لم يُحسن المجتمع استخدام عقله، عاش في دوائر مغلقة، عاجزًا عن التقدم.

ومن هنا، يبقى السؤال القرآني الخالد يتردد في الأسماع، ليحرك القلوب والعقول معًا: "أفلا تعقلون".

 

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة