هند الحمداني
قصفوا قطر...
فاهتزَت الشاشاتُ تدين
وتسابقت البياناتُ تستكين
أما المدافعُ العربية فباقيةٌ ساكنة
تلمعُ سبطانتها بالسكين
وتكتفي بهَرَجِ التصريح المبين
اشترينا الصواريخَ من خصمِنا
لنصدَ بها خصمَنا
فلما أقبل خصمُنا
أغلقنا المخازن باليقين
وأعلنَا أنَ التعاويذَ تكفينا:
قل هو الله أحد..
المعوذتان..
ودعاء يهمس:
"يكفينا الله... وهو السميع العليم"
منذ أن انهارت حصون العرب وارتفعت رايات السلام والخضوع، غدت المهانة اللغة الرسمية لعصرنا، أُمَّة مُثقلة بالهزائم تجر وراءها تاريخًا من الانكسار، وتجلس في مقاعد المُتفرِّجين المُثقلين، فيما العدو الذي أُعفي من العقاب يمرح في ساحة الأوطان، وإذ تتقدم إسرائيل بآلة القتل الممولة، تقف أمريكا خلفها ببرودة شيطانية، تُموِّل القصف وتُوقِّع معاهدات السلام، كمن يسكب الزيت على النَّار ثم يتظاهر بإطفائها، ثنائي واحد يوزع الأدوار، قنبلة هنا، وابتسامة هناك، ليبقى العرب بين رماد الهزيمة ووهم الحماية.
غزة.. تلك الرئة الأخيرة للكرامة، تنام وتصحو على القصف والجوع، تحاصر بالموت والصمت، ونحن نحصي بيانات الإدانة ونرفع أيدينا إلى السماء كمن يستجدي الغفران عن خيانته وعجزه، كأننا نُعيد مَثَلَ الثور الأبيض: أكلت يوم أكل الثور الأبيض، لم نصغ إلى صرخة فلسطين، فها هو الدور يقترب منَّا بيتًا بيتًا، ومدينة مدينة، ودولة دولة.
إنْ بقينا صامتين، فلن تكون غزة آخر الفصول؛ بل أولها، سيصل القصف إلى كل شاطئ عربي، سيقرع أبوابنا كما قرع أبوابها، وسنكتشف متأخرين أنَّ وجعها كان نبوءة لنا، وأن النار التي تركناها تلتهم بيت الجار ستجد في بيوتنا ما يُضاعف لهيبها.
أي قلوب هذه التي تنفق المليارات لتشتري الطائرات والمضادات والصواريخ من نفس اليد التي تحيك المؤامرات؟ نسابق الزمن في صفقات السلاح، نفاخر بالمناورات العسكرية، ثم حين يُطرق بابنا بقذيفة واحدة نلوذ بالصمت، وندعو إلى قمة، ونختبئ خلف عبارات "يكفينا الله وهو السميع العليم"، كأنَّ سلاح العرب اليوم ليس سوى "المعوذتين" و"قل هو الله أحد"، نتلوها بحسرة لا بطمأنينة، ونتظاهر بأنَّ السماء وحدها تتحمل مسؤولية الدفاع عن الأرض والعرض.
أي سياسة بائسة تلك التي تجعلنا ندفع للعدو ثمن سيوفه، ثم نرجوه أن يُخفف ضرباته؟ أين ذهب معنى السيادة الذي كتبناه في دساتيرنا وتغنينا به في احتفالاتنا الوطنية؟ إننا نرى الظلم يتقدم ويتوسع، لا يكتفي بابتلاع فلسطين، بل يمد يده إلى سوريا ولبنان واليمن وقطر، وربما غدا إلى غيرها، بينما تغرق حكوماتنا العربية في حسابات السوق وأسعار النفط وحفلات التطبيع.
ويبقى وجع غزة الشاهد الأشد على عجزنا، هناك يقف المقاومون العزل إلّا من إيمانهم، يحفرون في الأنفاق ممرات للكرامة، ويكتبون بدمهم آيات البطولة، يودع الواحد منهم الحياة وهو يعلم أنَّ الموت في سبيل الأرض ميلاد آخر، وأن الشهداء الذين ارتقوا قبلهم قد فازوا كما وعدهم الله: "وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ" (آل عمران: 169) هؤلاء لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فقد عرفوا الطريق الذي تاهت عنه عواصم كثيرة.
لكن الصمت العربي هو الخيانة، كيف ننام مِلء جفوننا، بينما يُباد أهلنا في غزة، يُجوَّعون ويقصفون نهارًا وليلًا، ويعذب الأحياء والموتى على حد سواء؟ كيف نستمر في حياتنا العادية؟ ونتناسى أن هناك شعبًا عربيًا مسلمًا يسحق تحت الركام؟ أيعقل أن يمر هذا الصمت المخزي مرور الكرام عند رب العالمين؟
إن التاريخ يُعلِّمنا أن من يصمت عن الظلم يصبح شريكا فيه، والسنن الإلهية تحذرنا أن عقاب الله لا يستثنى منه من تهاون أو تفرج: "وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً" (الأنفال: 25)، ومن يظن أنَّ الصمت حصن أمان، فلينتظر ساعة الحساب، حين ينقلب الأمان وهما، ويصبح السكوت نفسه جريمة تستوجب العذاب.
في الدوحة؛ حيث تعقد القمة الطارئة والعدوان الإسرائيلي يقرع الأبواب، يخرج علينا الأمين العام المساعد لجامعة تُدعى عربية، ليطمئننا بأنَّ "المخرجات تتسم بالعقلانية" وإن لم تُلبِّ طموح الشارع العربي، وبأن "الظروف غير مواتية" لمناقشة تفعيل اتفاقية الدفاع العربي المشترك. أي عقلانية هذه التي تقاس بميزان الخوف لا بميزان الكرامة؟ وأي ظرف أقسى من قصف عاصمة عربية كي ننتظر ظرفًا آخر؟ متى صار الدفاع عن الأرض ظرفاً مؤجلا يحدده رضا القوى الكبرى؟
إنها قِمم تُتقن فن إدارة العجز لا صناعة المواقف، بيانات تكتب بالحبر البارد فيما الدم يسيل ساخنًا في غزة والدوحة وبيروت وصنعاء، يتوارى السلاح خلف مفردات "الحكمة"، وتخفى الخيانة تحت قناع "الواقعية"، بينما الحقيقة تصرخ: الدم العربي ليس سلعة للمساومة، الدم العربي ليس رخيصًا.
اليوم.. القصف على قطر ليس حادثًا معزولًا؛ بل إنذارًا لكل مدينة عربية ما زالت تظن أنَّ جغرافيا النفط أو اتفاقيات السلام قادرة على حمايتها، لن يحمينا السلام المُزيَّف، ولن تردع العدو بيانات الشجب التي تكتب بلغة دبلوماسية باردة، الحماية الحقيقية تبدأ من وعي شعبي يرفض الاستسلام، ومن قيادة ترى أن كرامة الأرض أغلى من العقود النفطية، ومن اتحاد عربي يضع خطوطاً حمراء حقيقية لا تمس.
قد يُقال إن الظروف معقدة، وإن موازين القوى قاهرة، لكن التاريخ لا يرحم من يرضى بالدور الهامشي، لقد جربنا الانتظار عقودًا، فلم نحصد سوى مزيدٍ من الذل والهوان، فهل ننتظر حتى يصبح كل وطن عربي "غزة" جديدة؟ أم نعيد لأنفسنا حق السؤال والرفض والفعل والغضب والمقاومة؟
إنَّ أفظع الهزائم ليست تلك التي تخر لها المدن وتتهاوى معها الحصون؛ بل تلك التي تتسرب إلى أعماق الضمير فتطفئ نوره، وتترك الإنسان يمشي على قدميه وقد فقد معنى إنسانيته، وما لم نستفق من هذا الصمت الذي يملأ الآفاق كفراغ مخيف، سنمضي أُمَمًا تتجول فوق ركام أوطانها تتوهم أن الأيام عادت إلى سيرتها الأولى، بينما الخراب والظلم والفتن تتربص بهذا الوطن العربي الكبير، غير أن لله سننًا لا تتبدل، وللتاريخ موازين لا ترحم، فمن يساوم على كلمته اليوم، أو يبيع ضميره في سوق الخوف، سيشتري غدًا ندمًا مُضاعفًا لا فِكاك منه، فإمَّا أن نتحد ونقاوم، وإمَّا أن نكتب بأيدينا فصولًا جديدة من العار، ثم نقف جميعًا بين يدي رب يقول: "وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ" (الصافات: 24).