بعد قطر.. أنتم في خطر

 

 

د. إبراهيم بن سالم السيابي

 

دوَّى صوت الانفجار في سماء الدوحة، وتحوَّل ليل المدينة الهادئ إلى نارٍ ولهبٍ. لم يكن أحد يتوقع أن تصل الطائرات الإسرائيلية إلى العاصمة التي جعلت من نفسها جسرًا للحوار لا ساحة للقتال، إلى الدولة التي احتضنت مفاوضات الهدنة وقدمت نفسها وسيطًا بين الأعداء. لكن إسرائيل فعلتها، واخترقت الأجواء، واستهدفت اجتماعًا يبحث عن وقف النار وإعادة الأسرى، وكأنها تعلن صراحة: لن يمنعنا أحد، نحن من يحكم المشهد، ونحن من نُقرر من يعيش ومن يموت.

الغارة الأخيرة لم تستهدف مجرد سياسيين؛ بل قادة حماس وهم يجلسون على طاولة التفاوض لإنقاذ حياة الأبرياء ووقف نزيف الدم. هذا النوع من الاغتيال ليس مجرد هجوم عسكري؛ بل هو أبشع أنواع الإرهاب: إرهاب الدولة، فهو ينتهك كل القوانين الدولية والأعراف الإنسانية. لا يمكن تصور أن يُقتل إنسان وهو يُفاوض لإنقاذ حياة الآخرين، وأن تُزهق أرواح أبرياء لم يرتكبوا شيئًا، كما هو حال رجل الأمن القطري الذي فقد حياته بلا سبب سوى تواجده في المكان الخطأ، وتعاقب معه عائلته التي حُرمت منه فجأة. هذه الخسة تتجاوز كل حدود الأخلاق والسياسة، وتضع العالم أمام فاجعة أخلاقية وسياسية من الطراز الأول.

ما يُثير الدهشة والصدمة في هذا الاعتداء، أن إسرائيل انتهكت سيادة دولة ذات عضوية كاملة في الأمم المتحدة، وقصفت مجالها الجوي مباشرة، أمام أنظار العالم. هذا الفعل ليس مجرد عدوان عابر؛ بل رسالة صريحة لكل الدول أن إسرائيل فوق القانون الدولي، والقوانين الدولية نفسها أصبحت عاجزة عن حماية أي دولة مهما كانت مكانتها. كيف لدولة أن تقتل قادة سياسيين على أراضي دولة مستقلة ومعترف بها دوليًا، دون أن يجرؤ أحد على الردع؟

الغارة على الدوحة أثارت غضبًا قطريًا مشروعًا، فهي طالما حافظت على موقف الحياد، وسعت إلى الوساطة بين الأطراف المتحاربة، وحاولت إنقاذ الأرواح. هذا الاعتداء الفظيع على دولة محايدة لا يمكن تبريره، ويزيد من حجم الخطر الإقليمي، ويكشف حجم التحدي الذي تواجهه قطر في حماية سيادتها واستقلال قرارها السياسي.

دولة قطر ليست دولة هامشية. هي لاعب إقليمي مهم، وصوت حاضر في الأمم المتحدة، ووسيط قبلت به الأطراف المتحاربة والعواصم الكبرى. إضافة إلى ذلك، تستضيف قطر قاعدة العديد الجوية، أكبر قاعدة جوية أمريكية في الشرق الأوسط ومركز قيادة العمليات الجوية الأمريكية في المنطقة، ومع ذلك لم يتحرك أحد لردع الغارة، وكأنها رسالة أن القوة وحدها هي التي تحكم، وأن العالم مكتوف الأيدي أمام إسرائيل.

هذه العربدة ليست جديدة؛ فإسرائيل قصفت إيران وهي تتفاوض على ملفها النووي، وضربت دمشق وبيروت مرارًا، وأمطرت غزة بصواريخها، وما زالت مجازرها مستمرة حتى اليوم. أطفال يصرخون تحت الركام، نساء يحاولن حماية ما تبقى من حياتهن وحياة أطفالهن، شوارع تحولت إلى أنقاض، ومستشفيات أصبحت مقابر جماعية، مدارس أغلقت أبوابها خوفًا من القصف، وأسواق صارت خاوية من الناس وقطاع يئن من الجوع بلا طعام. والمأساة لا تقتصر على فلسطين ولبنان وسوريا؛ إسرائيل تضرب اليمن يوميًا تقريبًا، واليوم الدوحة. صدق من يصدق ذلك؟ إسرائيل أصبحت وكأنها تحكم العالم، تفعل ما تشاء، بلا رادع، بلا عقاب، وبلا حسيب ولا رقيب، والعالم كله مكتوف الأيدي، مشاهد ومغمض العينين.

الأخطر أن حلم إسرائيل الكبرى لم يعُد فكرة بعيدة أو هاجسًا نظريًا. لقد صرح نتنياهو غير مرة، وبكل فخر ودون أي رادع، أن إسرائيل لن تسمح بقيام أي قوة تعارضها، وأنها ستعيد رسم مستقبل المنطقة بما يضمن تفوقها المطلق. والسؤال هنا: من سيمنعها من تحقيق ذلك؟ حالنا يعرفه القاصي والداني؛ انقسامنا وضعفنا وانشغالنا بأنفسنا يجعل الطريق أمام هذا المشروع مفتوحًا على مصراعيه.

هكذا صار العالم: مجلس الأمن مشلول، والقانون الدولي غائب، وحقوق الإنسان سلعة انتقائية تُباع وتُشترى حسب المصالح. ما يحدث هو عودة صريحة إلى شريعة الغاب: القوي يفرض إرادته والضعيف يدفع الثمن. وإسرائيل تعلم أن لا أحد سيوقفها طالما أن الولايات المتحدة تمسك بيدها وتحميها من أي مساءلة.

أما العرب؛ فقصتهم قديمة متجددة. ضعفهم لم يعد في قلة العتاد وحده، بل في فقدان الإرادة الجماعية. مواقف متفرقة، بيانات لا تسمن ولا تغني من جوع، ردود أفعال موسمية سرعان ما تخمد. لم تعد لدينا رؤية موحدة، ولا استراتيجية تحمي سيادتنا، ولا قدرة على فرض كرامتنا على الطاولة الدولية.

الغارة على قطر يجب أن تكون جرس إنذار لا صفعة عابرة. اليوم الدوحة، وغدًا قد تكون أي عاصمة عربية أخرى. إذا لم نعد ترتيب بيتنا الداخلي، ونقوّي دفاعاتنا، ونبني موقفًا عربيًا موحدًا، وننوّع تحالفاتنا بعيدًا عن الارتهان المطلق لواشنطن، فسنجد أنفسنا جميعًا تحت رحمة منطق القوة.

يا عرب، استيقظوا قبل فوات الأوان. بعد قطر، أنتم في خطر! هذه ليست صرخة غضب؛ بل إنذار أخير، فإما أن تنهضوا الآن وتستعيدوا مكانتكم، أو تنتظروا دوركم وأنتم مكتوفو الأيدي حتى يسقط آخر جدار من جدرانكم.

الأكثر قراءة