إسماعيل بن شهاب البلوشي
تاريخ الأمم ليس خطًا مُستقيمًا نحو التقدّم، بل هو مسار متعرّج تصعد فيه الدول إلى القمة ثم تهوي إلى القاع، تنهض بعد حضارة مشرقة، ثم تعود إلى الضياع بفعل أخطاء متراكمة أو صراعات داخلية. هذه الدائرة التاريخية لم تسلم منها حتى أعظم الإمبراطوريات، فما بالك بالدول الناشئة والنامية، وخاصة دولنا الإسلامية التي كان لها رصيد حضاري هائل ثم تعثرت في قرون لاحقة.
السبب الجوهري لهذا التذبذب يعود- في كثير من الأحيان- إلى غياب المنظرين والمفكرين الاستراتيجيين الذين يُفترض أن يحموا مسار الدول، ويقرأوا الأخطاء ليستفيدوا منها، ويحوّلوا النجاحات إلى أسس ثابتة للبناء. غير أنَّ كثيرًا من المجتمعات انشغلت فقط بالجانب الاقتصادي والربح السريع: ماذا سنجني غدًا من التجارة؟ وأي قطاع سينتعش؟ وكيف نوفّر وظائف عاجلة للباحثين عن عمل؟ بينما تُهمل البوصلة الكبرى لسفينة الدولة، فتتجه إلى محطات لم يكن أحد يرغب بالوصول إليها.
التجربة التاريخية تخبرنا أن الانحراف يبدأ صغيرًا: خلافات قبلية، انقسامات مذهبية، أو تيارات متشددة تظن أنها تنصح الأمة، بينما هي تزرع بذور التمزق. بعض هذه التيارات تبشّر بالخير وهي في حقيقتها تعجّل بالانقسام. ثم تأتي لحظة يتحوّل فيها هذا الانحراف إلى واقع يصعب التراجع عنه، فتدخل الدولة مرحلة اللاعودة.
هناك أمثلة كثيرة لدول جرّبت هذا المسار: قيادات انشغلت بالشعارات والاختلافات، وابتعدت عن السياسة المتزنة وعن وحدة الهدف. بينما دول أخرى نجت لأنها أبعدت النعرات والهويات الضيقة إلى الهامش، وركزت على بناء الإنسان والمؤسسات. النتيجة أن الأولى تفتت، بينما الثانية فتحت أمامها أبواب التوسع والنهوض.
الخطر الأكبر أن يُترك المجال لكل فرد أن يتحدث باسم الدولة في الخارج أو الداخل دون مسؤولية. قد تبدو كلمة عابرة أو موقف صغير غير مؤثر اليوم، لكنها تتحول غدًا إلى مدخل لأزمة كبرى، سواء في المستوى الداخلي أو العالمي. لذلك فإنَّ الدول الرشيدة تضع قواعد صارمة: الحديث في الشأن الخارجي له قنواته الرسمية، ومن واجب المواطن أن يلتزم بمهامه وأدواره دون أن يتجاوزها إلى ما قد يجرّ وطنه إلى مخاطر، الدول الإسلامية تحديدًا تقاسمت الاختلاف ودفعت أثمانًا باهظة حتى عندما كانت وسائل التواصل بالجمل بين قطر وآخر فكيف هو تأثيره المدمر في زمان لم نستعد له فكريًا وقانونيًا وصرامة من ينظر إلى بعيد ويخاف على الأوطان ومستقبل الدول المركزية عليه أن يعيد حساباته مليون مرة لأن اختلاف الأمة مستقبلًا لن يكفيه أن ينتهي بالنقاش. وهنا تبرُز أهمية وجود نخب فكرية استراتيجية، ليست أسيرة اللحظة الاقتصادية أو المطلب الآني؛ بل ترى أبعد من ذلك. نخب تفكر في مكانة الدولة بعد خمسين عامًا، وكيف تحافظ على وحدتها، وكيف تحمي مسارها من الانحراف.
الدروس التي يُقدّمها التاريخ واضحة؛ وهي أن: الدول التي لم تحذر من النعرات الداخلية وقعت في الانقسام، والدول التي لم تستفد من أخطائها أعادت إنتاج نفس الأزمات، والدول التي تركت القيادة لغير المؤهلين خسرت استقلالها وسيادتها.
في المقابل، الدول التي بنت مؤسساتها على أساس الفكر، والاعتدال، والاستراتيجية طويلة المدى، حافظت على مسارها، وتحوّلت إلى قوى عالمية حتى إن لم تكن غنية بالموارد الطبيعية وحتى لو لم يكن لها تاريخ مثل الكثير من الدول.
واخيرًا.. إنّ الدول- خاصة الإسلامية منها- مدعوة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى إعادة ضبط بوصلتها؛ فالعالم يتغيَّر بسرعة، والتحديات لا تنتظر المترددين. المطلوب ليس فقط اقتصادًا ناميًا أو فرص عمل متزايدة، بل رؤية متكاملة تحمي المسار الوطني من الانحراف، وتمنع انزلاق الشعوب إلى صراعات داخلية أو مغامرات غير محسوبة.
وبكلمة جامعة.. من أراد أن يحافظ على دولته، فعليه أن يزن كلماته وأفعاله بميزان المصلحة العُليا، وأن يترك رسم المسار لمن يملكون الفكر الاستراتيجي والرؤية البعيدة، وإلا فإنَّ التاريخ لا يرحم من يُعيد أخطاء من سبقوه والصرامة والكلمة العليا حسب النظم والقوانين هي فقط كفيلة بحفظ الدول وما يمكن أن تفعله اليوم قد لا تستطيع غدًا.