وداد الإسطنبولي
في كل مكان، هناك وجوه تتصدر المشهد، وأسماء لامعة تُذكر في ألسنتنا، أو في تقاريرنا، أو عبر وسائل التواصل.
لكن، ماذا يوجد خلف هذه الوجوه؟ وهل هناك من يحمل عاتق الهم، أو من يحمل أثرًا مخفيًا لتظهر ملامح المتصدر؟ وهل هناك من يستحق أن نذكره ونعلن عنهم علانية على الملأ؟ ليس تفاخرًا بالنسب، أو تبجيلًا في سطورنا، وإنما تجلٍ وسمو لرقيهم وعطائهم واستجابتهم لإسعاد الآخرين.
لا يتمثل دورهم في التباهي؛ بل في شيء أكبر من ذلك بكثير. وبين هذه السطور سأذكر اسم هذا الجندي المجهول الذي تستحق سطوري أن تسطر اسمه، وتزدان صفحتي بوجوده، وتتحدث حروفي بهمته وتفانيه.
نعم، الجندي المجهول أيضًا مثلنا. يحمل على عاتقه مسؤوليات وأوامر ونواهي، ولكنه يحمل هموم الآخرين قبل همومه، ويصوغ بخطواته هدوء النجاح قبل ضجيج التصفيق.
هذا الجندي المجهول ليس مجرد قائد؛ بل هو سيمفونية من القيم، وسمسمية (1) تعزف ألحان الإنسانية والمثابرة. كل نغمة من أوتاره تحمل صدقًا، وكل لحن ينبض بتواضع، فلا نرى فيه أثرًا للكبر أو الاستعلاء، بل نلمس في حضوره أفقًا يفتح أمامنا طرقًا جديدة ويشعل فينا جذوة الأمل.
لقد عرفته منذ مسيرة عمله معنا وبيننا، وهو مثابر ومتعاون برغم مكانته. من ذاكرتي الصغيرة، أذكر أني سألته يومًا في بدايات تعيينه: "كيف تعرف أن تكون هنا وهنا، ومع هذا وذاك، وكل ذلك بطاقة وحيوية وإدراك للأمور والإلمام بها؟".
فقال لي يومها: "والدي كان يأخذني وهو صغير إلى مقر عمله، يعطني دروسًا وأنجز معه بعض الأعمال الصغيرة. القيادة ليست أوامر تُلقى، بل قدوة تُحتذى. والنجاح لا يصنعه فرد متعالٍ، بل فريق يؤمن بأن قائده معهم لا فوقهم".
فكان بيننا واحدًا منا، يشاركنا تفاصيل ما يحدث ويحثنا على الصبر، يسمع أنين التعب قبل صوت الإنجاز، ويضع يده على الجرح ليخفف عنا.
هو جندي مجهول لأنه لا يطلب ذكرًا، ولا يبحث عن أضواء تتبعه؛ بل يعمل بصمت يليق بعظمة الأثر. وربما يظنه البعض عابرًا، لكنه في الحقيقة حجر الأساس الذي تستند عليه جدران الحلم، وهو الوتر الذي إن انقطع صمتت الأغنية. كالأم خلف أبنائها، يراقب بعين الحرص لكي لا يضر أحدهم.
إنه مسلم جعبوب "أبو سالم". حين نتأمل خطواته، ندرك أن الإنسانية لا تزال ممكنة، وأن المثابرة ليست شعارًا يُرفع، بل سلوك يُعاش. وكل ما نقوم به، ونسعى إليه، ونسعى للنجاح فيه، نتذكر أن خلف كل قصة إنجاز جنديًا مجهولًا يبتسم بصمت، ثم يخطو بعيدًا وكأنه لم يكن.
فلهذا الجندي كل التقدير، وكل الاعتراف، وكل الامتنان؛ لأنه يعزف على سمسميته لحنًا خالدًا، نردده في قلوبنا مهما صمتت الكلمات.
فتذكروا أن هناك جنودًا آخرين مجهولين، يعزفون لحنًا مختلفًا، لحنًا لا يسمعه إلا من يتذوق معنى الإنسانية.
*************
- السِمسِمية: آلة موسيقية مصرية شعبية تُستخدم في المدن الساحلية وكان لها دور بارز في الموسيقى الشعبية المقاومة للاحتلال الإسرائيلي في مدن القناة، وتعود جذورها إلى الحضارة المصرية القديمة.