سلطان بن ناصر القاسمي
حين يرفع الإنسان بصره إلى السماء، أو يضع يده على قلبه في لحظة سكون، يدرك أن سر الحياة ليس في كثرة الطعام، ولا في وفرة المال؛ بل في ذلك التوازن العجيب الذي يجمع بين جسد قوي وروح صافية. فالله سبحانه وتعالى لم يخلقنا أجسادا تسعى فقط، ولا أرواحا تحلّق دون جسد؛ بل جعلنا كيانا متكاملا، يحتاج البدن إلى الغذاء، وتحتاج الروح إلى ما يزكيها ويهذبها، وبين الاثنين تكمن سعادتنا وطمأنينتنا.
إن التفكر في قدرة الله يفتح للإنسان بابا من البصيرة؛ فحين يتأمل في عالم "الملك" الذي يراه بعينيه -من شمس تشرق كل صباح، وأرض تثمر بعد مطر، وبحر يحتضن الموج- يدرك أن هناك عالما آخر أعمق، هو عالم "الملكوت"، الذي يدرك بالبصيرة والروح. هناك، في صمت الروح، يزداد يقينه بعظمة الخالق وحكمته. وما أجمل أن يبدأ الإنسان رحلته بالتفكر في نفسه؛ في هذا الجسد الذي أودع الله فيه من الأسرار ما يعجز عنه العقل، وفي هذه الروح التي تحركه وتمنحه المعنى.
ولأن الجسد هو وعاء الروح، كان لا بُد أن يمنح نصيبه من الرعاية. الغذاء هو أول ما يخطر في البال حين نتحدث عن صحة البدن؛ لكنه ليس مجرد امتلاء معدة؛ بل هو علم وفن وميزان. فالماء، والبروتينات، والفيتامينات، والكربوهيدرات، والدهون الصحية؛ كلها عناصر تحيا بها الأجساد، وتشتد العظام، وتزدهر الطاقة. غير أن المشكلة ليست في وجود الغذاء؛ بل في طريقة التعامل معه؛ فالإفراط يثقل البدن ويرهق القلب، والإهمال يضعف المناعة ويطفئ الحيوية.
وكم من شاب اليوم انشغل بعضلاته فابتلع المكملات والهرمونات، يظن أنها ستمنحه القوة؛ بينما هي تسرب السم إلى دمه، وتنهك كبده، وتضعف قلبه على المدى البعيد. القوة الحقيقية هنا ليست في حجم العضلات؛ بل في الجسد الذي يخدم صاحبه دون أن يخذله عند أول محنة.
وليس الغذاء وحده ما يصون البدن؛ فالجسد يحتاج إلى الرياضة التي تحرك الدم وتنعش العقل، وإلى النوم المبكر الذي يعيد بناء الخلايا ويجدد الطاقة، ويحتاج إلى النظافة التي تحفظه من الأمراض، وإلى العادات السليمة التي تمنحه القوة. لكن، كم من أجساد ضيعتها السيجارة؟ وكم من قلوب أنهكها الدخان؟ والمؤلم أن التدخين لم يعد حكرا على فئة دون أخرى؛ بل انتشر بين الرجال والنساء على حد سواء.
وهنا لا بد أن يقف كل طرف مسؤولا: الأسرة بتوجيهها، والدولة بقوانينها، والمدرسة بتوعيتها. فصحة الجسد مسؤولية مشتركة، وليست قرارا فرديا وحسب.
غير أن الجسد مهما قَوِي، يظل هشا إذا أُهملت النفس؛ فالصحة النفسية هي الجناح الآخر الذي لا يطير بدونه الإنسان. التوازن بين العمل والحياة الخاصة ليس ترفا؛ بل هو ضرورة. على سبيل المثال: الموظف الذي ينسى نفسه في دوامة المهام حتى يغدو أسيرا للتوتر والضغط، سرعان ما ينهار؛ بينما ذاك الذي يُوازن بين التزاماته وراحته يُعيد شحن طاقته، فيُكمل مسيرته بقوة.
والعلاقات الاجتماعية هنا تلعب دور البلسم؛ صديق يستمع، أو أسرة تحتضن، قد تكون سببا في تجاوز أزمة كادت تفتك بالروح.
ثم تأتي الروح؛ ذلك السر الأعظم في كيان الإنسان. فما قيمة جسدٍ ممتلئ صحة إذا كانت الروح خاوية؟ وما جدوى قلب ينبض إن كان غارقا في الفراغ؟ التغذية الروحية لا تشترى من صيدلية، ولا تباع في الأسواق؛ لكنها تُنال حين يقف الإنسان بين يدي ربه في صلاة خاشعة، أو حين يفتح المصحف فيجد في آياته بردا وسلاما، أو حين يلهج لسانه بالذكر في ساعات الوحدة.
قال تعالى: "حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ" (البقرة: 238). هذه اللحظات لا يذوقها إلا من ذاق طعم القرب من الله؛ لحظات تُنعش الروح وتُهذبها، وتُعيد ترتيب الأولويات في قلب الإنسان.
ومن غذاء الروح أيضا الأخلاق؛ صدق يرفع صاحبه، رحمة تضيء دربه، أمانة تحفظ مكانته. ومتى امتلأت الروح بهذه القيم، صارت أقوى من أي محنة. بل إن الاستغفار، والرضا، والتوكل على الله؛ تصنع من قلب ضعيف حصنا منيعا. وكم من غني يملك الدنيا لكنه لا ينام من القلق، وكم من فقير يملك قلبا عامرا بالإيمان فينام مطمئنا، راضيا بما قسمه الله.
إن التوازن بين الجسد والروح ليس شعارا يُرفع؛ بل هو نمط حياة. جسد بلا غذاء يذبل ويضعف؛ وروح بلا عبادة تتيه وتضيع. ومن جمع بين غذاء البدن وغذاء الروح، امتلك سر الطمأنينة، وعاش في وسطية دعا إليها الإسلام في قوله تعالى: "وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا" (القصص: 77). فليست الدنيا دار شقاء إذا أحسن الإنسان عِمارتها بالعدل بين حاجات بدنه ومتطلبات روحه.
وختاما، يدرك الإنسان أن السعادة ليست في وفرة الطعام وحده، ولا في كثرة العبادات دون وعي؛ بل في الجمع بينهما: أن يأكل ليقوى، ويعبد ليصفو، فيكون جسده عونا لروحه، وروحه نورا لجسده. وحينها فقط، يعيش إنسانا متوازنا، يواجه الحياة بقوة البدن، وطمأنينة الروح، وصفاء القلب. وتلك هي السعادة الحقيقية التي لا تُشترى بالمال؛ بل تُبنى بالاعتدال والإيمان، وبالحرص على غذاء الجسد وغذاء الروح معًا.