سُلطان اليحيائي
لستُ من أولئك الذين يحملون الشهادات العليا، ولا من المنتسبين إلى الجامعات ومراكز البحوث، لكنّني من أبناء هذا الوطن الذين يُدركون أن الانتماء لا يُقاس بالمؤهّلات، وأنّ البصيرة قد تُبصر ما تعجز عنه الألقاب.
وأبدأ بتساؤلاتٍ تُؤرّقني: هل يُعقَل أن تظلّ بلادٌ بتاريخِ عُمان، وموقعِها، وهويّتِها، بعيدةً عن تأسيس مراكزَ استراتيجية متخصّصة في السياسة، والثقافة، والأمن، والاقتصاد؟!
وهل يُعقَل أن نعيشَ في عالمٍ يتهافت على المعلومة والتحليل، بينما لا نكاد نعرف: أين هي مراكز البحوث؟ من يُعدّ السياسات؟ من يقرأ المتغيّرات ويستشرف المُستقبل؟!
في كثيرٍ من الدول التي سبقتنا، تنتشر مراكزُ الفكر (Think Tanks) كأذرعٍ رديفةٍ لصُنّاع القرار، لا تُنافسهم؛ بل تُضيءُ الطريق في زوايا الظلّ، وتُحسّن جودة الرؤية، وتُقلّل من كُلفة الخطأ.
مراكزٌ.. لا نَسمعُ لها همسًا!
أين مراكز الدراسات الاستراتيجية في عُمان؟ أين بيتُ الفكر الوطنيّ الذي يُحلّل خرائطَ النفوذ في الإقليم؟ من يُقيّم المشهد الاقتصادي بقراءةٍ متجرّدة؟
من يشتغل على مشروع "عُمان الثقافي الحضاري العالمي"؟ من يُعيد تقديم الهُويّة العُمانية للعالم بلغةٍ علميّةٍ رصينة؟!
لا نُنكر وجودًا إن وُجد، ولكن: أين أثره؟ أين صداه؟
لماذا لا يُستند إليه القرار؟ لماذا لا يشتبك مع النقاش العام؟ لماذا لا نلمح له حضورًا في الإعلام أو السياسات؟!
حتى الدراسات الشرعية، والفكرية، والفلسفية، واللغوية.. لِمَ لا تجتمع في كيانٍ مستقلّ، يُحشد فيه الباحثون والمفكّرون، وتُكرَّم فيه الكفاءات، وتُبعث فيه الرسالة العُمانية بأبهى صورها؟!
وممّن يُشاطِرونني الرأي: ألا ترون أنه قد آن الأوان؟ فقد تأخّرنا كثيرًا..
نحتاج إلى مراكز تُعنى بالتحليل لا بالتنميق، بالدراسات لا بالمجاملات.. مراكز لا تُدار بالبيروقراطية، بل تُشغَّل بالعقول.. مراكز لا تُؤسَّس لإرضاء شخصٍ بعينه، بل لإرضاء طموح وطنٍ بأكمله.
في عُمان من الكفاءات ما لو أُفسِح لها المجال، لأضاءت خريطة الفكر في الخليج والعالم العربي.. فلماذا لا يُفتح الباب؟ هل ينقصنا المفكّرون؟ أبدًا! هل تنقصنا المواد؟ لا! ما ينقصنا هو: القرار، والدعم، والتمويل، والإرادة.
إنْ كان ثمّة توجّهٌ فعليٌّ.. فهذا نداءٌ صادق!
إنْ كان هناك توجّهٌ فعليٌّ لإقامة مراكز بحثيّة استراتيجية وطنية، فليكن توجّهًا جادًّا، لا تجميليًّا، ومؤسّسيًا، لا ارتجاليًّا.
والمطلبُ ليس بمعجزٍ؛ بل مناشدةٌ جادّة بأن تُمنَح هذه المراكز ما تستحقّه من مساحةٍ، واستقلالٍ، وتقدير.
والهدف: مراكز تُؤسَّس لتكونَ عقلَ الدولة المُفكِّر، لا أن تُصمَّم لترديد ما يُقال لها!
ولتُنشأ هيئةٌ أو مجلسٌ يُعنى بالمراكز البحثيّة، يتكفّل بالتنسيق مع مجلس الوزراء والجهات المعنية، ويُشرف على التراخيص، ويُسهّل التمكين، ويضبط التمويل، كافلًا النزاهة والاستقلال العلمي.
الجهاتُ المؤهَّلة.. موجودة!
المفاتيح ليست مفقودة، لكن يجب أن تُدار بإرادةٍ واعية:
• وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، بصفتها الحاضن الأوّل للبحث العلمي.
• وزارتا الإعلام و"الثقافة"، لدعم المراكز الفكرية والثقافية.
• الأمانة العامة لمجلس الوزراء، فيما يخص الشؤون السياسية والاستراتيجية.
• وزارة الاقتصاد، لتحليل المشهد الاقتصادي والتخطيط بعيد المدى.
كلّ هذه الجهات تملك الإمكانات، وتنتظر القرار الذي يُحرّك عجلة الإنشاء لا التنظير، ويُطلق يد الكفاءات، لا يُقيّدها بتقارير شكلية وشروط بلا روح.
عُمان لا تنقصُها العقول.. فلتجد الحاضنةَ لها.
المرحلة القادمة لا تحتمل العشوائية، ولا تكفي فيها النوايا الطيبة، بل تحتاج إلى تفكيرٍ مؤسّسيٍّ عميق، يُواكب التحوّلات، ويصنع القرار لا يتبعُه.
وقد آن أوانُ البناء..
فليباركِ الله في الساعين، وفي المسعى.
﴿وَقُلِ ٱعْمَلُوا۟ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُۥ وَٱلْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (التوبة: 105).