حين يتحرك المال تتحرك الأوطان

 

 

 

د. ابراهيم بن سالم السيابي

 

في زمن تتقلب فيه الأسواق وتتغير فيه الفرص، يبقى السؤال: كيف نحول أموالنا إلى قوة تحرك اقتصاد الوطن وتبني مستقبله؟

هذا المقال نستعرض كيف يمكن لاستثمار المال أن يكون المحرك الحقيقي للنمو والازدهار في السلطنة.

في إحدى الأمسيات الهادئة، جلس الجد خلفان مع أحفاده تحت ضوء القمر، بعيدًا عن ضوضاء الهواتف وألعاب الفيديو، ليبدأ حديثًا يحمل بين طياته درسًا عميقًا. قال لهم بابتسامة تملؤها الحكمة: "هل تعلمون من هو الغني حقًا؟ هل هو من يملك الأموال الكثيرة، أم من يملك قلبًا ويدًا تصنعان الخير؟". صمتوا قليلًا، ثم أجاب سالم، أصغرهم: "الغني هو من يملك المال، والفقير من لا يملك شيئًا". هزَّ الجد رأسه وقال: "هذا صحيح، لكنه جزء من الحقيقة فقط. هناك فقرٌ أعمق من قلة المال، وهو أن تمتلك ثروة ولا تعرف كيف تجعلها تنبض بالحياة. فكم من أناس يملكون المال في حساباتهم، لكنهم أسرى له، لا يستثمرونه، لا يزرعون به، فتظل أموالهم جامدة كما لو كانت أحجارًا بلا روح".

أضاف الجد وهو يشير إلى النجوم في السماء: "كما لا يمكن للسماء أن تضيء بدون نجوم، لا يمكن للمال أن يحرك الأوطان إذا بقي ساكنًا. غنى الإنسان الحقيقي هو أن يجعل ماله ينبض بالحياة، فتتفتح به أزهار الأمل في حياة نفسه وأسرته ومجتمعه".

وتشير أحدث البيانات إلى أن الودائع البنكية في السلطنة وصلت إلى 33 مليار ريال عُماني بنهاية يونيو من العام الجاري 2025. وهو رقم هائل، لكنه يشبه نهرًا كبيرًا جمد مياهه، لا يتحرك، لا يسقي الحقول ولا يروّج الحياة في الاقتصاد.

هذه الأموال الكثيفة، التي تنام في حسابات التوفير والودائع الثابتة، تكسب فائدة قليلة جدًا، لكنها تفقد فرصة النمو الحقيقي. لو تحركت هذه السيولة نحو الاستثمار في مشاريع إنتاجية حقيقية، لما كانت مجرد أرقام في حسابات؛ بل كانت نبضًا حقيقيًا يحرك عروق الوطن، يخلق فرص عمل، ويفتح أبوابًا جديدة للأمل والازدهار.

فكِّر فيها كنبع ماء، إذا جُمِّد ومُنع من الجريان، يصبح بلا حياة، لكن إذا جرى بين التلال، يُنبت الأرض وينشر الخضرة. هكذا هو المال: إذا جُمِّد، يموت؛ وإذا جرى في عروق الوطن، يحيا ويحيي معه الجميع.

وتمارس الحكومة دورًا يشبه المزارع الحكيم الذي يعتني بأرضه ليجني منها أفضل الثمار؛ فهي ليست فقط راعية للقوانين، بل شريكة في بناء المستقبل، تقدم الحوافز الحقيقية، وتُسهّل الإجراءات، وتقلل البيروقراطية التي قد تعرقل تدفق الاستثمارات.

وخفض أسعار الفائدة يشبه فتح نوافذ جديدة في وجه المستثمرين، يدعوهم للتنفس والاستثمار بثقة. والإنفاق التنموي على البنية التحتية ليس مجرد بناء طرق وجسور، بل هو تمهيد للطريق أمام القطاع الخاص لينطلق ويبدع.

وعندما تتنوع القطاعات بين الصناعة، والزراعة، والسياحة، والتكنولوجيا، تتسع رقعة الفرص وتزدهر الأرض بألوان مختلفة، كل لون منها يحمل وعدًا بنمو مستدام وفرص جديدة تعود بالنفع على الجميع.

وحين تتحرك هذه العجلة، تبدأ "الدورة الاقتصادية الإيجابية": استثمارات جديدة، وفرص عمل، وزيادة دخل الأسر، وإنفاق أكبر على السلع والخدمات، وتوسع المشاريع وبالتالي المزيد من الاستثمارات… وهكذا في حلقة مستمرة من الازدهار.

لكن من المهم أن تكون هذه الاستثمارات في مشاريع حقيقية تضيف قيمة للاقتصاد، لا في مشاريع هامشية أو استهلاكية قصيرة العمر؛ فالمشاريع الإنتاجية التي تلبي حاجة السوق، وتخلق وظائف، وتفتح أسواقًا جديدة، هي التي تصنع الفرق وتبني اقتصادًا متينًا.

لقد أثبتت تجارب السنوات الأخيرة أن الاستثمار الذكي في قطاعات السياحة البيئية، والصناعة التحويلية، والزراعة الحديثة، والتكنولوجيا، يمكن أن يخلق فرصًا هائلة للنمو، بشرط أن تتضافر جهود الدولة ورجال الأعمال معًا.

وفي النهاية، لا بُد أن ندرك أن بناء الاقتصاد مسؤولية مشتركة، تبدأ بدور الحكومة في سن التشريعات الملائمة، ومنح الامتيازات والحوافز الحقيقية لجذب الاستثمارات، ثم يأتي دور أبناء الوطن في المبادرة والعمل والمخاطرة المدروسة، كلٌ في مجاله، حتى تتحول هذه الجهود المختلفة إلى قوة اقتصادية متكاملة تعود بالنفع على الجميع، وتضمن استقرار الوطن وازدهاره للأجيال القادمة.

وفي عالم لا يتوقف عن الحركة والتغيير، يبقى المال مجرد وسيلة ما لم يُستثمر بحكمة وروح وطنية.، فكل ريال نستثمره هو بذرة أمل تزرعها في أرض الوطن، تثمر فرص عمل، رفاهية، واستقرارًا لأجيال قادمة.

دعونا نكون نحن القادة الحقيقيين لهذا التغيير، لا متفرجين على الركود والجمود. لنحول أموالنا إلى قوة حية، تدفع بعجلة الاقتصاد، وترسم مستقبلًا مشرقًا لعُماننا الغالية؛ فالمال المتحرك هو الحياة المتجددة، وعُمان التي نحلم بها تبدأ بخطوة استثمار صغيرة من كل واحد منا.

لنكن هذه الخطوة، ولنُحرِّك المال، لنُحرِّك الأوطان.

الأكثر قراءة