662

 

 

المعتصم البوسعيدي

الإنسان ليس مجرّدَ رقمٍ؛ فالإحصائيّات شاهدةٌ على عالمٍ ماتَ فيه العدل والإنصاف، وسقطتْ فيه أقنعةٌ كثيرة، وفضحتْ غزّة الكرامةِ من فضحت، وذلك الكيان اللقيط المزروع في خاصرةِ أمّتِنا، ما كانت لتقومَ له قائمة لولا الضعف والهوان، والتصهيُن والخذلان، والتقاتل على فتاتِ القضايا، وتأسُّد بعضِنا على بعضٍ، ودَفن الرؤوسِ لحظةَ الحربِ الضروس. وهل نكتفي بذلك؟ لا، بل نطعن في المُقاومةِ، ونرضى بتسليمِ السلاحِ، ونتنازل عن عزّتنا وشرفِنا مقابلَ الخنوعِ، والتباكي، والتسابقِ على مَن منّا أكثر تماسيحَ تذرف الدموع.

غزّة، أيّتها الملعب الكبير الذي غيّرَ قواعدَ اللعبة؛ فالفائز ليس أكثرَك أهدافًا، ولا الرامي الحائزَ على أعلى النقاط، الفائز هو المتمّسك بحقِّ أرضهِ، الصابر على ابتلاءِ ربّه، المرابط في الثغور، الثائر على المغتصِبِ وحشدِ الشرور. 662 رياضيًّا وأكثر استشهِدوا في لمحةِ عين، لم يذكرْهم سوى قلّةٍ قليلة، لكنّ عند ربِّهم يذكرون، منهم "بيليه فلسطين" لاعب كرةِ القدمِ النجم سليمان العبيد، رحلَ وكرته تتدحرج مُعلِنةً خسارةَ "الفيفا" رأسِ التناقضاتِ، وميزانِ التقلّبات، والوجهِ القبيحِ للاصطفافِ وتلوينِ الأحداث.

لقد اجتمعْنا وتوحَّدْنا- نحن العرب- على موقفٍ واحدٍ، كعادتِنا منذ عهدٍ؛ ألا وهو الصمت والحياد في مواطنَ لا حيادَ فيها، ونحن نتباهى باستضافةِ أقوى البطولات، ونحتفي برئيسِ "الفيفا" أيَّما احتفال، وهو المُبتسم المدّاح، المشيد الصدّاح، الذي قاد حملةَ مقاطعةِ روسيا حينما تجرّأت على حربِها ضدّ أوكرانيا، فوقفْنا معه، ورفعْنا العلمَ الأصفرَ والأزرقَ تضامنًا ومساندةً، ولمّا فعلَ الكيان الصهيونيّ اللقيط فعلتَه، هربْنا إلى مواسمِنا الرياضيّة، وحكاياتِنا المستقبليّة، دونَ تحريكِ سنِّ شَفَةٍ عن وقفِ رياضةِ الكيانِ، والتضامنِ مع رياضةٍ تُباد، وقبلها إنسانٌ يطهّر عِرقيًّا ودينيًّا؛ لأنّه لم يرضَ بالدنيئةِ والذلّ، والجمهور إما يصفّق، أو يشاهِد بصمتٍ كالحَجَر، لا كالبَشَر.

كان لِسليمان العبيد رصيدٌ من البطولاتِ والإنجازات، وقد فتِحَت له أبواب الخروجِ من "الأرضِ المحروقة"، لكنه اختارَ قضيّتَه، وطنَه، ناسَه، وأخيرًا جنتَه بإذنِ اللهِ تعالى. تنقّل - رحمه الله - في الملاعبِ من نادي خدماتِ الشاطئ، إلى أنديةِ هلال القدسِ وشبابِ جباليا، وحمل رايةَ المنتخبِ الفدائيّ، وكان، وكان، وكان... كلّها طموحاتٌ وأحلامٌ في وطنٍ لطالما أرادَ فقط السلامَ والأمان.

 

مثل "بيليه فلسطين" كُثُرٌ؛ فبحسبِ بياناتِ الاتحادِ الفلسطيني- قبلَ أيّام- هناك أكثر من 662 شهيدًا من الرياضيين الفلسطينيين ضمنَ قافلةٍ بلغ عددها أكثر من ربعِ مليونٍ، بين شهيدٍ ومصاب، ومجتمع الرياضةِ على استحياءٍ يفتح فاه، والاتحادات الرياضية واللجنة الأولمبية في غياهبِ الجبِّ؛ لا أسمع، لا أرى، لا أتكلم، فأمريكا راعية إرهابِ بني صهيون الذين يصولونَ ويجولونَ في كلِّ الألعابِ ولا حرجَ عليهم، وأمّةٌ لا زالت تتجادل: أيّها الفِرقة الناجية؟ ولعمري، لا ناجٍ أوضح من سليمان العبيدِ ورفاقِه وأهلِ غزةَ ومُقاومتِها العظيمة، وتبًّا لكلِّ رياضةٍ لا مبادئَ فيها، ولا قِيَم.

الأكثر قراءة