لن يطمسوا صوت الحقيقة

 

 

د. سالم بن عبدالله العامري

"لن يطمسوا صوت الحقيقة"، هكذا كتبت دماء الصحفيين سطرها الأخير في غزة. ففي ليلة حالكة، استهدفت غارة صهيونية خلف مستشفى الشفاء الصحفي أنس الشريف، مراسل الجزيرة، ومعه الصحفي محمد قريقع وثلاثة من رفاق الكاميرا والكلمة، في محاولة لإسكات الشهود على الجريمة. كان القاتل يظن أن القصف قادر على محو الصوت، لكنه لم يدرك أنَّ دماء الصحفيين لا تطفئ الكلمة، بل تمنحها حياة أوسع وصدى أبعد.

ومثلما رحلوا، رحل قبلهم على الطريق ذاته كوكبة من الصحفيين في غزة، حملوا الكاميرا والقلم حتى اللحظة الأخيرة، وواجهوا القصف بعدساتهم. كانوا يعلمون أن كل صورة تبث، وكل كلمة تكتب، ليست مجرد خبر، بل جدار يحمي الذاكرة من النسيان، وسلاح في ميدان الحقيقة.

أنس الشريف، الذي عرف أزقة غزة وألف رائحة بارودها، لم يترك الدنيا قبل أن يودع الأحرار بوصية تقطر ألمًا ووفاءً:

"أوصيكم ألا تسكتكم القيود، ولا تقعدكم الحدود، وكونوا جسورًا نحو تحرير البلاد والعباد… أوصيكم بأهلي خيرًا، بابنتي شام، بابني صلاح، بوالدتي الحبيبة، وبزوجتي أم صلاح…" لم يكتب أنس هذه الكلمات من برج عاجي ولا من وراء مكتب، بل كتبها وهو في قلب الخطر، وهو على خط النار، مدركًا أن صوته قد ينقطع في أي لحظة، لكنه مؤمن أنَّ الحقيقة ستجد دائمًا من يحملها.

مع أنس، ارتقى أيضًا إبراهيم ظاهر، مؤمن عليوة، ومحمد نوفل، وهم في قلب الميدان يوثقون القصف بعدساتهم. هؤلاء لم يكونوا مجرد ناقلي أخبار، بل مقاتلين في معركة الوعي، يدركون أن الكاميرا في غزة سلاحٌ بقدر ما هي أداة توثيق. كل صورة أرسلوها، وكل تقرير بثوه، كان وثيقة إدانة لآلة الحرب، ودليلًا على أن غزة ليست مجرد خبر عاجل، بل حكاية حياة لأناس لهم أسماء وأحلام وأمهات تنتظر عودتهم. كانوا يعلمون أن مهنة الصحافة في غزة ليست مجرد عمل، بل هي وقوف على خط النار، وأن الكاميرا هنا ليست أداة نقل خبر، بل معركة في حرب الحقيقة وصراع السرديات.

في الحروب، أول ما يسعى القاتل لاغتياله هو الحقيقة، لأنها تكشفه، وتفضحه، وتمنح الضحية وجهًا وصوتًا. لكن ما لا يدركه القاتل، أن الحقيقة حين تروى بدم الشهود، تصير أعمق رسوخًا وأوسع انتشارًا. أصوات أنس ورفاقه اليوم تضاعفت، وصارت صدى يتردد في كل منبر، ورسالة يحملها كل صحفي وحر في العالم. وصاياهم أمانة، والصمت عليها خيانة.

رحلوا وتركوا في قلوبنا مفاتيح للصمود والمقاومة ورفض الصمت. دماؤهم جسور لعبور الكلمة الحرة، وأرواحهم أعمدة ترفع راية الحقيقة. لن يطمسوا، لأن كل عدسة ترفع اليوم في غزة، وكل قلم يكتب عن أطفالها، وكل صورة تصل إلى العالم، هي امتداد لصوتهم.

في غزة، قد يسقط الصحفي شهيدًا، لكن الحقيقة لا تسقط. قد يكسر القلم، لكن الحبر يظل يسيل من الدماء. أما أصوات الشهداء، فلن تدفن، بل ستنتشر في الريح لتصل إلى كل ضمير حي، تذكّر العالم أن هناك أرضًا محتلة وشعبًا يقتل، وصوتًا.. لن يطمس.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة