خريف الذكريات

 

 

 

خالد بن سعد الشنفري

 

ذكرياتنا معك يا خريف الذكريات بلا منازع، ذكريات حياة وعُمر، لقد كنت تحلُّ فينا وتحتلُّ منَّا كل عام كلَّ جوارحنا وتغرس فيها أجمل وأسعد الذكريات. كنا نترقب هلالك علينا بشوق لا يُضاهى منذ منتصف الفصل الذي يسبقك من كل عام؛ فتخفف عنَّا عناء رطوبة القيظ وحرارته، وحتى عندما يحين أوان رحيلك استجابةً لسنن المواسم الربانية، تظل ذكراك الجميلة معنا وترافقنا إلى منتصف الفصل الذي يليك، رغم عشقنا له أيضًا لأنه فصل الصَّرْب، وما أدراك ما الصَّرْب؟! الذي اسمه بدوره مُحيِّرنا مثل اسمك؛ فالصرب حصاد وموسم الفتوح، الذي فيه يبسط بحر العرب أجنحته ويبتلع زبده ويصبح طوعًا (مده) كالبساط، ويأذن للقادمين إلى ظفار بالدخول إليها فيأتون بخيراتهم ويذهبون بخيراتنا.

ما حكايتك أنت أيضًا يا بحر العرب يا نديم ظفار مع خريفها، ولِمَ كنت تُصِرُّ على إغلاقها تمامًا طيلة فترته؟!

ما أعجبك من فصل يا خريف، لم تكتفِ بتطويع البحر لخدمتك، بل طوَّعت وطوَّقت القلوب لتتيم وتهيم حبًّا فيك من بين كل الفصول يا خريف. تعبر وتمر بحياتنا كل الفصول ببساطة، نودع أحدَها ونستقبل الآخر، إلا أنت يا خريف، نترقبك بفرح وشوق في كل عام، وذلك قبل حلولك ومن منتصف الفصل الذي قبلك، فيخفف عنا وينسينا ذلك رطوبته وحرارة القيظ بانتظار بلسم ضبابك ورشات رذاذك، ونودعك بالدموع، ولا يشفع لنا حتى جمال هذا الصرب البديع بدوره والذي يليك.

كنا أول ما نصحو صباحًا فيك يا خريف ونستشعر أننا في الخريف، كان ذلك كفيلا بأن يمنحنا شحنات عالية من الطاقة والانتعاش والحيوية يحركها الفرح والسرور كوننا في فصل الخريف. كانت خطواتنا إلى المدرسة سعادة، والذهاب إلى العمل سعادة، كنتَ وما زلتَ خريف السعادة، ليتهم أسموك موسم السعادة.

ارتبطت السعادة معنا فيك منذ القدم، فأنت موسم أفراحنا وأعراسنا وموسم مخيماتنا وسط الطبيعة، حيث نستقبلك هناك؛ فلا خريف وسط أربعة جدران، ولا بد أن يسقط ولو الجدار الرابع على الأقل؛ فالجرابيب والدعون والسيوح تناسب طبيعتك الخضراء، وهناك نقطف ونتذوق ما تجود به علينا من فطر بري لذيذ (قمباء) أو التنتلي والكوم والدجر والبيضاح والحشواء (حشبا) من حصادك، أو من خبطار وقطميم وحمضوت وسمن خريفي من مراعيك.

حتى اسمك يا خريف حيَّرنا وحير الآخرين معنا فيك، هل أنت خريف الشباب؟ أم خريف الحصاد؟ أم خريف العمر؟ والعياذ بالله! كل شيء فيك مميز ومختلف كأيقونتك ظفار.

كلما طال بك الزمن واكتشفك الآخرون من حولنا، يزداد اهتمامهم بك وفيك، حتى وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة لم تسلم منك وضجَّت بذكرك، ولفتَّ العالم بأسره تحمل أخبارك، وأنت ولا على بالك. كل من عاشك غرَّد في حبك، وحتى من اختلف معك ولو أفلَس منه غرَّد، هام بك، وتغنَّى الشعراء بما سيخجل ليلى وبثينة وعزة منك لو سمعن ما يقولون، تغنوا بك ولو لم يستوعبوا حتى معنى اسمك يا خريف.

كم أنت جميل بضبابك ورذاذك، وكم أنت أجمل حتى عندما تغازلنا أحيانًا في ذروتهما وتسحب قليلًا وشاحك الضبابي عنا لتسطع علينا شمسك الدافئة مثل اخضرارك، لتحسسنا بمدى أهميتك، وتتيح لنا المجال لتخلب أنظارنا بما رسمته من لوحة قوس قزحية على جبالك ووديانها وهضابها، فتدلل علينا يا خريفنا الاستثنائي دون العالم كله، تدلل فقد ملكتنا ولك حق الدلال علينا، فثقتنا فيك وفيمن سخَّرك لنا ثقة إيمانية وعقدية لا تتبدل مهما غرَّد المغردون أو نعق الناعقون؛ لأنك ببساطة رفيقنا منذ قرون.

الأكثر قراءة