حمد الصبحي
حين نتأمل ماهية الملتقيات، بجميع أشكالها، نجد أنَّ جوهرها يتجسد في قدرتها على دفع الزمن نحو مرحلة جديدة. فهي بطبيعتها فضاء للتشاور والنقاش، كما تشير دلالتها اللغوية المأخوذة من اللقاء، وما أجمل اللقاء، في سؤاله ولذّة وقته، وفي العمل يكتمل اللقاء ويحدث تداول الرأي وبحث مفاصل القضايا.
والملتقيات أو المؤتمرات لا تقوم إلّا على الحوار، ووضع النقاط على الحروف، خاصة عندما تكون الأسئلة حادة، وتبحث عن مرآة تعكس ملامح النهاية في زمن يموج بالتحولات والمتغيرات، ويصفّر إلى كل ما هو جديد في إيقاع متسارع.
وفي عالم اليوم؛ حيث تتسارع التغيرات الاقتصادية والاجتماعية، يصبح من الضروري مواكبة هذه التحولات بتفكير جماعي، يُنتِج مخرجات جديدة تسهم في تجديد حياة الإنسان على مختلف المستويات. ومن هذا المنطلق، جاء "ملتقى العمل"- الذي انعقد مؤخرًا في صلالة- ليكون جزءًا من هذا السياق، في طقسها المنعش، ومكانتها السياحية التي أضحت جاذبة للملتقيات والمؤتمرات النوعية، فاختيار صلالة لم يكن مجرد صدفة، بل بوصلة مدروسة نحو ترسيخ موقعها كوجهة للقاءات والمؤتمرات ذات الطابع المعرفي والسياحي معًا.
وقد أراد معالي الأستاذ الدكتور محاد بن سعيد باعوين وزير العمل، لهذا الملتقى أن يكون أكثر من مناسبة رسمية.. أن يكون مرآةً للواقع، ومنصة للحوار العميق في ظل التحولات الراهنة، ومساحة لطرح الأسئلة الكبرى، ومناقشة التحديات التي تفرضها الظروف، بمشاركة أطراف الإنتاج الثلاثة: الحكومة، أصحاب الأعمال، والعمال، وإبراز ملامح العمل الوطني التواق إلى نهضة جديدة تأخذ بالأرض إلى أفق أعمق ورؤية ترشد الطريق إلى جهة الهدف والغاية.
لقد أظهر الملتقى قدرًا كبيرًا من الوعي بما يحمله المستقبل من احتمالات، وسعى إلى إعادة قراءة واقع العمل في ضوء الأسئلة الجديدة، مقدمًا أوراقًا ومداخلات شكلت سردية معرفية متكاملة، استحضرت قضايا العمل ومفرداته، بلغة تلامس العمق وتبحث عن المعنى وفلسفته.
وتكمن أهمية ملتقيات ومؤتمرات العمل، التي تُعقد بين الحين والآخر، في كونها تربة خصبة لبذر الأحلام وتحويلها إلى واقع. إنها منصات لصياغة مستقبل العمل، تشارك فيها النخب وتناقش قضايا مصيرية كحقوق الموظفين، وسوق العمل، وتشريعاته، وتوازناته، وكل ما من شأنه حماية الإنسان في زمن التحول.
وقد استطاع هذا الملتقى، أن يكون أكثر من مجرد حدث؛ حيث كان منعطف أفكار، وخرج بحزمة من الرؤى التي تصب في صالح صناعة مستقبل العمل، وتنسجم مع الرؤية العُمانية الجديدة؛ سواءً على الصعيد المحلي أو الإقليمي أو الدولي.
لم يكتف الملتقى بعرض المشكلات؛ بل اتجه نحو بناء التوافقات وصياغة حلول قابلة للتطبيق، من شأنها تحفيز السياسات، ورفع كفاءة الأداء المؤسسي، وتعزيز ثقافة العمل القائم على الابتكار والتميّز. وكان منفتحًا على المستقبل، ينظر إليه بعيون ترى التغيير فرصة، وتتعامل معه كأداة لصياغة نهضة جديدة.
وليس غريبًا أن تكون مثل هذه الملتقيات أشبه بالمياه المتحركة التي تغذي العمل بوصفه مفصل حضاري/ إنساني يتعمق في الروح البشرية. والحديث عن العمل ليس مجرد نقاش حول وظائف ومهن؛ بل هو نقاش في عمق الوجود الإنساني، في علاقة الإنسان بالزمن، وبالإنتاج، وآلية المستقبل؛ لذلك فإن الملتقيات أو المؤتمرات التي تتناول هذا الشأن تأخذ بُعدًا حضاريًا؛ لأنها تُعنى ببناء الإنسان وصياغة علاقته بالمجتمع، وترسيخ قيم المسؤولية والمشاركة.
إنَّ ملتقى العمل لا ينفصل عن هذه الرؤية؛ بل جاء ليعيد ترتيب الأولويات ويؤكد على أن مستقبل الشعوب يبدأ من صياغة عقلية جديدة تجاه العمل، تقوم على الإبداع لا التلقين، وعلى الإنجاز لا الانتظار، وعلى أن يكون الأمل كخيط شفيف أمام أي خطوة تحرث جسد العمل بكل مفاهيمه.
وتسعى سلطنة عُمان، ممثلة في وزارة العمل، إلى تطوير منظومة العمل لتواكب متطلبات العصر، وتسهم في بناء اقتصاد مرن ومستدام؛ لذلك فإنَّ مؤتمر العمل لا يُقرأ كحدث مستقل؛ بل كجزء من مشروع وطني أكبر، يعيد النظر في التشريعات، ويحفّز فرص التوظيف، ويؤسس لبيئة عمل أكثر كفاءة وعدالة. فالمؤتمر محطة من محطات التحّول العُماني نحو اقتصاد المعرفة، ونحو سوق عمل ديناميكي يعترف بالكفاءة ويكافئ الجهد ويحتضن الطموحات.
ومن يراقب هذا البعد المتحرك في الأفق، سيجد أن الشباب هم المولد الحقيقي؛ فالبُعد الشبابي في المؤتمر، يتخلق منه الكثير من الفرص، قد تكون غائبة عن الآخر؛ لأن هؤلاء الشباب هم صنّاع اللحظة وقادة المستقبل المتحصن بالمعرفة الإنسانية الجديدة، وفق أشكالها المعاصرة.
ومن أبرز ملامح الملتقى، تلك المشاركة الواسعة للشباب؛ سواءً من خلال أوراق العمل أو عبر الحوارات الجانبية أو الحضور التفاعلي. لقد كان الشباب حاضرين لا كمستمعين فقط؛ بل كصانعي رأي ومبادرات، يحملون معهم همومهم وتطلعاتهم، ويبحثون عن مواقعهم في خارطة العمل الجديدة. وقد شكّلت هذه المشاركة نقطة ضوء، تؤكد أن المؤتمر كان منفتحًا على الأجيال القادمة، يستمع إليهم كما يستند إليهم في بناء المستقبل.
وفي عالمٍ يزداد تعقيدًا، لم تعد الحلول الفوقية المجردة مجدية. بل إن الحوار هو السبيل الأنجع لصياغة القرارات وصناعة التحولات. ولذا يُمكن القول إن ملتقى العمل كان نموذجًا لهذا المنهج؛ حيث التقت الآراء وتقاطعت الأفكار وتعددت وجهات النظر، وجميعها اجتمعت على مبدأ أساسي: أن الإصلاح لا يأتي إلّا من خلال التفاهم، وأن العدالة في العمل لا يمكن أن تتحقق دون الإنصات للجميع.
ولأن الملتقى انعقد في صلالة- المدينة التي تجمع الناس في خريفها الساحر، وتساعدهم على الهدوء في تأمل الطبيعة- فإنَّ الحوار عن العمل، لا يتوقف عند حدود اللحظة؛ بل يمتد نحو أفق أبعد، نحو عُمان التي تحلم وتخطط وتصنع، وربما تتفرخ الأفكار من مسرح انعقاد المؤتمر الذي لم يكن اختيار انعقاده في صلالة، إلّا لشرعية المكان وأهميته ولينضح بنهر حكاياته الإنسانية.