د. سالم بن عبدالله العامري
في ظل التحولات الاقتصادية المتسارعة، يعيش المواطن اليوم في معركة يومية مع تكاليف الحياة، تزداد شراسة كلما ارتفعت الأسعار وتقلصت المداخيل، وتفاقمت التحديات. لم يعد غلاء المعيشة مجرد حالة ظرفية عابرة، بل بات واقعًا ضاغطًا يتجسد في تفاصيل الحياة اليومية: من فاتورة الكهرباء إلى كيس الخبز، من رسوم الخدمات إلى كلفة النقل والسكن وغيرها.
لقد ارتفعت أسعار السلع والخدمات بشكل لافت خلال السنوات الأخيرة، ورافقها فرض بعض الضرائب والرسوم الجديدة، أو زيادات في القائم منها، وسط تدني في الرواتب وثبات دخل الفرد، ما خلق فجوة معيشية متسعة بين ما يجنيه المواطن وما ينفقه. والأسوأ من ذلك، أن هذه الفجوة لا تنفك عن التمدد في ظل زيادة أعداد الباحثين عن عمل، واتساع ظاهرة التسريح من الوظائف، خصوصًا في القطاع الخاص الذي يشهد تقلصًا في فرص العمل وتراجعًا في الحوافز.
ومؤخرًا، أُثيرت حالة من الجدل في الشارع المحلي حول ما تردد عن ارتفاع في أقساط التأمين على المركبات، وهو ما سارعت هيئة الخدمات المالية إلى نفيه، مؤكدة أنها لم تصدر أي موافقات لأي شركة تأمين برفع الأقساط، بصفتها الجهة الرسمية المنظمة والمشرفة على قطاع التأمين في سلطنة عُمان.
هذه الظروف مجتمعة أثرت بشكل مباشر على السوق المحلي، حيث تراجعت القدرة الشرائية للمواطن، وتباطأت حركة البيع والشراء، وهو ما انعكس بدوره على الدورة الاقتصادية في البلد. فعندما يضطر المواطن إلى تقليص نفقاته لتغطية أساسيات الحياة، تتضرر قطاعات حيوية كالتجزئة والسياحة والخدمات، وتدخل الأسواق في حالة من الجمود، وتُشل عجلة الاقتصاد. ومن الناحية الاجتماعية، تخلق هذه الضغوط حالة من الإحباط، وتولد شعورًا متزايدًا بعدم الاستقرار، وتضعف الثقة بالسياسات الاقتصادية، وقد تؤدي إلى بروز ظواهر سلبية مثل الهجرة أو الانسحاب من سوق العمل، أو الاعتماد المفرط على الديون.
أمام هذا المشهد، لا بد من طرح حلول واقعية وفعالة للتخفيف من آثار هذه الأزمات المعيشية، ومن أبرزها: مراجعة سياسات الرواتب وربطها بمعدلات التضخم، بما يضمن تحسين الدخل الحقيقي للمواطن ويمنحه القدرة على مواكبة الأسعار، وإعادة النظر في هيكل الضرائب والرسوم، بما يحقق العدالة الاجتماعية ولا يرهق الشرائح ذات الدخل المحدود، وتوجيه الدعم إلى الفئات الأكثر تضررًا، وتشجيع الاستثمار في المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وتوفير تسهيلات ائتمانية حقيقية للشباب والمبادرين، بهدف خلق فرص عمل جديدة وتخفيف الضغط على سوق العمل الحكومي، وإعادة تأهيل المسرحين عن العمل من خلال برامج تدريبية نوعية، تمكّنهم من الاندماج مجددًا في السوق وفق متطلبات الاقتصاد الجديد، ضبط الأسواق ومراقبة الأسعار، ومنع الاحتكار والتلاعب، بما يضمن عدالة التوزيع ويحمي المستهلك من جشع بعض التجار، وتعزيز الشفافية الاقتصادية وتمكين المجتمع من متابعة الإنفاق العام وأولويات الدعم، بما يرسخ الثقة ويعزز المسؤولية المشتركة بين الدولة والمجتمع.
إن المرحلة التي نمر بها تتطلب عقلانية في إدارة الموارد، وشجاعة في اتخاذ القرارات، وتضامنًا مجتمعيًا يضع مصلحة الوطن فوق المصالح الآنية. فالأمن الاقتصادي لا يقل أهمية عن الأمن السياسي، واستقرار السوق المحلي مرهون بقدرة الدولة على تحقيق التوازن بين متطلبات التنمية وحاجات الناس.
ختامًا، إن الاستثمار الحقيقي لا يكون فقط في البنية التحتية والمشاريع الضخمة، بل في الإنسان أولًا، فهو من يدير الاقتصاد، وهو من يتحمل أعباءه، وإن لم نُحسن إليه، فإننا نخاطر بمستقبل لا يمكن التنبؤ بعواقبه.