دور المجتمع في زيادة نسبة السكَّان

د. صالح الفهدي

بات الانخفاض الملحوظ في أعداد المواليد في السلطنة تحدِّيًا كبيرًا له آثاره الديمغرافية، بل والمصيرية، فمن 8.6 مولود لكل امرأة في عام 1988 إلى 2.1 مولود لكل امرأة بحلول عام 2030 (ووفقًا لتقديرات الأمم المتحدة) وهو ما يؤثِّرُ على نسبة السُّكان التي لها آثارها الاجتماعية نظرًا لتراجع الخصوبة وانخفاض المواليد، ومن ذلك:

  • انكماش عدد السُّكان وما ينتجُ عنه من تبعاتٍ مؤثِّرةٍ على الوجود المصيري.
  • زيادة نسبة كبار السن في المجتمع وهو ما يعني نقص القوى العاملة المحلية الشابة، وارتفاع الطلب على الرعاية الصحية وخدمات الشيخوخة والتقاعد.
  • نقص القوى العاملة مستقبلًا، حيث سينخفض عدد الداخلين إلى سوق العمل بعد 20–30 عامًا، الأمر الذي يشكِّل تحدِّيًا أمام استدامة النمو الاقتصادي ويزيد الاعتماد على القوى العاملة الوافدة.
  • الضغط على منظومة الدعم الاجتماعي، وهو ما يعني ارتفاع نسبة "المُعالين" من كبار السن مقارنة بعدد "المنتجين" من فئة الشباب، وذلك ما يثقل أعباء أنظمة التقاعد والتأمين الصحي.   

وهُنا فإنَّ على المجتمع أن يُدركَ هذه الحقائق التي أضحت واضحةً للعيان، وهي بحاجة إلى التحرُّك الاجتماعي نظرًا لأنه مشاركٌ في نتائجها الاجتماعية السلبية، ومن تلك الإشكاليات تأخُّر سن الزواج، وما يترتَّبُ عليه من الاكتفاءِ بطفلين أو ثلاثة، وهذا العدد قد يصلح لبعض المجتمعات ذات الكثافة السكانية، لكنه لا يصلحُ لمجتمعاتنا ذات النسبة السكانية القليلة، حتى الصين التي سنَّت قانون الطفل الواحد في عام 1979 عادت لتصحح خطأها بعد ذلك لتشجِّع السُّكان على زيادة الإنجاب.

إنَّ الحل الطبيعي لإشكالية الانخفاض المتواصل للنسبة السُّكانية عبر الزواج، وحل كلَّ ما يتعلَّقُ بهذا الأمر من الجوانب الاقتصادية، والاجتماعية، والنفسية، والفكرية، وعلى المجتمع أن يقفَ بجديَّةٍ لمراجعة الأعراف التي سنَّها في اشتراطات الزواج، ومن ذلك غلاء المهور، وتبعات الزواج، وهذا الأمر محل نقاشٍ اجتماعي مُزمن منذ عقود طويلة، وأذكرُ أنني في عام 2013 أدرتُ جلسةً في مجلس الدولة في ندوة "الممارسات الاجتماعية" وكانت عن تعقيدات الزواج.

لقد تم تحديد سقف المهور من قِبل الدولة لا يتجاوز الألفي ريال عماني، ولكن الشروط القاسية للزواج أثقلت كاهل الشباب، حتى تزايدت حالات الطلاق بعد فترة وجيزة من الزواج كإحدى أهم نتائج الديون التي تكلَّفها الشاب؛ ما يجعل أهل الفتاة مشاركين في حدوث الطلاق بالديون التي أثقلوا بها ظهر زوج ابنتهم، حتى أنَّ أحد الفتيات تقول: "أنا أُؤيِّدُ المهر العالي والشروط الباهظة، ولكن حين يأتي الأمر على زواج أحد إخوتي ويُطلبُ منه ذات الشروط، يجعلني ذلك أتراجع عن هذه القناعة"!

وإذا كنا مجتمعًا مسلمًا محافظًا فإننا نقعُ في متناقضاتٍ بين الأعراف التي نقرُّ بها، فتشكل عقبةً كأداء للزواج، وبين التوجيهات النبوية الكريمة، من مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "أعظم النساء بركة أيسرهن مؤونة" (أخرجه مُسلم)، وحديث: "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاءٌ"(أخرجه البخاري)، وهو حديثٌ يتصدَّر عقود القرآن، دون أن يعي المجتمع بأنَّه مشاركٌ في تذليل (الباءة) وهي القدرة على الزواج، وليس ذلك حصرًا على الشاب المقبل على الزواج.

إن على المجتمع واجب تيسير الزواج، لأن المقابل (فتنةٌ في الأرضِ وفسادٌ كبير) كما جاء في الحديث الشريف، وهذا التيسير يقتضي خفض التكاليف لفردٍ سيصبحُ من أفراد الأُسرة؛ تيسرًا له لاستدامة العشرة، وعدم الرُّزوح تحت طائلة الدين الثقيل، وهو بهذا التيسير إنَّما يُسهم في زيادة نسبة بني جنسه، وذلك واجبٌ فرضٌ لا يجب التهاونُ فيه.

كما إنَّ على المجتمع -خاصَّة المقتدرين فيه- أن يُسهم في عقد مناسبات الزواج الجماعي تخفيفًا على الشباب المتزوج، وتشجيعًا لهم للإقدام على الزواج، فالشاب أكثر ما يقلقه مصاريف الزواج الكبيرة، والمتشعبة، والمجتمع بهذه المناسبات يخفف عليه قلقه ويعينه على الإقدام على الزواج.

إن إنشاء صندوق الزواج بمكرمة سامية من جلالة السلطان -حفظه الله ورعاه- يدلُّ على اهتمام جلالته بأمرِ المجتمع، وتيسير الزواج على الشباب، حيث سيسهم الصندوق في تشجيع الشباب على الزواج بالتخفيف عنهم ماديًا، ولتعزيز المشاركة المجتمعية في هذا الصندوق، فإنني أقترح أن يكون الصندوق ذا صفةٍ (وقفية) يمكن أن يسهم المجتمع بتنميته، وتوسعة أهدافه.

ولا يقتصرُ دور المجتمع في تيسير الزواج، وإنَّما أيضا في التوعية والتثقيف قبل الزواج من خلال الورش التي تقام للمقدمين على الزواج، وفي الحفاظ على الزيجات من خلال إصلاح ذات البين أكان ذلك من خلال الأُسر، أو من خلال لجان التوفيق والمصالحة، أو القضاة أنفسهم لا بصفتهم الرسمية وإنما بصفتهم كمواطنين من أجل حلِّ المشكلات بين الأزواج وتخفيف نسبة الطلاق المتزايدة.

كما إن على المجتمع أن يشجِّع على زيادة المواليد خاصَّة أن هناك تشريعات مشجِّعة للأم والأب فيما يتعلق بالإجازة الخاصة بالأمومة للأم، أو الرعاية للأب، هذا فضلا عن مساهمة منظومة الحماية الاجتماعية في دخل الأُسرة، وفي اعتقادي أن صندوق الزواج إن أصبح (وقفيًا) فإنه قد يسهم مستقبلًا في دعم سياسة الإنجاب.   

خلاصة القول أنَّ على المجتمع دورا في تسهيل الزواج، وتخفيف تبعاته، والتقليل من تكاليفه، ناظرًا إلى المصلحة العامة المتحققة للمجتمعِ كلِّه، وغير مقتصرٍ على النظرة الضيقة للمظاهر، والتباهي، والمقارنة بالآخرين من المقتدرين ماديًّا.

لا يجب على المجتمع أن يرفع أياديهِ تاركًا هذا الأمر في يدِ الأعراف الاجتماعية التي أثبتت أنها في غير صالحِ المجتمع، بل عليه أن يعيد النظر بجديَّةٍ لأنَّ القضية وجودية، حيثُ إن انخفاض المواليد يعني تقلُّص أعداد السُّكان، وهو أمرٌ مقلقٌ لا يسرُّ المجتمع، بل يجب أن يدفعه إلى التعاضد والتكاتف لإيجاد حلول سريعة وعملية.

الأكثر قراءة