مَرْسُولُ الخُبْزِ

 

مصطفى البعليش

 

-أنا لن أسامحك يا المختار...

هكذا بدأ المعطي كلامه حين التقى بي، دون أن يسلم ودون مقدمات...

-لماذا يا أخي؟ ماذا فعلت؟ ماذا اقترفت في حقك؟..

-كان عليك أن تُضمنها مجموعتك القصصية... إنها أروع قصة... تستحق أن تكون هي بدل سواها...

-أية قصة يا المعطي؟

-قصتك مع بوشعيب...

ويدخل في حالة هستيرية من الضحك... ثم يسترجع محيا الصرامة... لابد لك أن تدون هذه الأحداث، فهي جزء من تاريخ حينا، ومهمة الكاتب الأساسية تتبع تاريخ المجتمع، وتاريخ الأسر العريقة.

-الله يهديك يا ...

يبدأ المعطي وبإلحاح أكبر في طلب أن أُسْمِعه قصتي مع ابن عمه بوشعيب

بالفعل هي بعض مما علق في الذاكرة... هو حدث لم ولن ينسى..

-قلت لك يا المعطي عندما كنَّا صغارا، فقد حكم عليَّ ابن عمك بتفادي المرور بقارعة منزل عائلته وهكذا لزم عليّ أن أعيد رحلة كولمبوس أي التوجه شرق منزلنا للوصول للغرب الذي يتواجد به فرن الحي، بعبارة أخرى بدل أن أقطع ثلاث بنايات رابعها منزل أسرة بوشعيب أتجه عكس ذلك فأنعطف جهة "الباردا" حاملا المايدة (وهي لوح من خشب يوضع عليه العجين لينقل إلى الفرن) في اتجاه "بارادا" مرورا بالشوكلاطي العجلاتي والمتجر الكبير للزيداني وأترك خلفي محطة التكسي الهادرة لألوي على الشارع الذي يقطنه صديقي رضوان الزاهي وعزيز المجدوبي... رحلة طويلة هي ثلاث أضعاف أو يزيد عن المسافة التي تفصل منزلنا عن فرن الوالي. وإذا استحضرنا "ميدات الجيران" التي أتحمل مسؤوليتها. لك أن تتصور مقدار المحنة التي أذاقنيها ابن عمك العزيز.

يعود المعطي لضحكه الصاخب للمرة المائة بعد الألف...

ويعود لسؤاله المكرر للمرة المائة بعد الألف... وأعيد جوابي كذلك للمرة المائة بعد الألف...

-لأنه ابن السي علال "الجادرمي" (الدركي)...

فيعود المعطي ليزلزل الأرض والسماء بضحكته...

-وكيف انتهى الأمر؟

لست شهرزاد يا أخي المعطي... لقد ندمت حين حكيت لك ما جرى... وقد جَعَلْتني أعيد القصة آلاف المرات... وهي قصة عادية مكررة وقعت شبيهاتها ملايين وربما مليارات المرات...

-في مرة من المرات التي كان الديكتاتور بوشعيب يفرض قوانينه المجحفة عليَّ، صادف أني كنت أحمل مايدة خبز الحاجة زازية ورأتني آخذ الاتجاه المعاكس لطريق الفرن... فاستوقفتني وسألتني السبب... أخبرتها بقوانين قراقوش التي يفرضها ولد السي علال "الجدرمي"... أمسكت المايدة بيد وباليد الأخرى أمسكت ذراعي وجرتني نحو منزل السي علال وهي تزبد وترعد... نقرت اليد الحديدية المعلقة في الباب... ولم تنتظر أن ينفتح هذا الأخير ونادت بأعلى صوتها:

-للا طامة... وا للا طامة... وا الشريفة الغيلانية...

خرجت للا طامة ويداها لازالتا لم تتخلصا من العجين...

-نعم آ الحاجة... مرحبا... مرحبا... تفضلي بالدخول...

ردت الحاجة ووجهها لا زال متجهما:

-أين السي علال...

وأردفت:

-لا نعرف عنكم إلا الخير... عاشرناكم سنين عديدة فلمسنا حسن تربيتكم لأبنائكم... ما بالكم هل هرمتم وخرج الطوق من يدكم ولم يعد لكم القدرة على الصغار...

كانت للا طامة الغيلانية فاغرة فمها مندهشة وهي تنصت لكلام الحاجة زازية:

-ماذا وقع؟... ماذا حدث؟...  أخبريني وسأرضيك وأطيب خاطرك...

نطقت الحاجة وهي غاضبة:

ابنكم المهذب جدا يعتدي على هذا اليتيم... يحسب نفسه وهو ابن الجدرمي قد ملك الدنيا ومن عليها...

هذا الأمر لا يرضي الله... ولا عباده... وأنا لن أسكت عن هذا... وإن كان ابنكم قد خرج عن طوقكم.. ولا تستطيعون لجمه فأنا لن أسكت...

كانت هذه آخر مرة أرهب وأرضخ لأوامر فتوات حارتنا... فقد ذاعت قصة الحاجة مع أهل بوشعيب... وصار الجميع يحترمني أو بالأحرى يهاب ويخاف غضبة الحاجة زازية....

هامش أو ملحوظة:

توفيت الحاجة زازية سنوات بعد ذلك، ففهمت لأول مرة معنى أن يكون الإنسان يتيمًا ولو تقدم به العمر. توفيت إلى رحمة الله وتركت في نفوس الجميع غصة لا جلاء لها. أما الجار السيد بوشعيب فقد تعلم الدرس جيدا فبعدما صار دركيا على نهج أبيه. أصبح يبين لمن يعترض طريقه على سدود المراقبة الطرقية للسيارات والحافلات والشاحنات...السبب في التوقيف أو المنع أو المصادرة للأشياء أو الأشخاص بالدليل والبرهان. عكس ما كان يفعل معي عند المرور بالخبز قرب منزل عائلته. رحم الله الحاجة زازية وبارك في صحة السيد بوشعيب.

 

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة