الذكاء الاصطناعي الفائق

محمد بن علي بن حمد العريمي

mahaluraimi@gmail.com

 

بين لحظة وأخرى، يتحوّل الخيال العلمي إلى واقع ملموس تقوده خوارزميات تتعلم من تلقاء نفسها وتتخذ قرارات معقدة أسرع من أي إنسان.

الذكاء الاصطناعي الفائق، أو ما يُعرف بـSuperintelligent AI، لم يعد موضوعًا لأفلام هوليوود، بل بات القوة القادمة التي ستغيّر شكل العالم ودول الخليج، ومع تسارع الاستراتيجيات الرقمية، يبرز هذا النوع من الذكاء كأحد أعمدة التحول الاقتصادي والاجتماعي. سلطنة عُمان، بسعيها نحو أهداف رؤية "عُمان 2040"، تجد نفسها أمام فرصة غير مسبوقة لتبني هذه التكنولوجيا وتحقيق قفزات نوعية في مختلف القطاعات.

بدايةً، في القطاع الصحي، تُظهر الأبحاث الحديثة أن الذكاء الاصطناعي الفائق يمكن أن يُخفض نسبة الأخطاء الطبية بنسبة 86% وفقًا لتقرير صادر عن منظمة Gitnux عام 2023، وأنه قادر على تقليل تكلفة الرعاية الصحية عالميًا بما يصل إلى 360 مليار دولار سنويًا. في السعودية، تم تطبيق حلول الذكاء الفائق للكشف المبكر عن السرطان بدقة تجاوزت 94%، فيما تعمل سلطنة عمان على تنفيذ مشاريع بالتعاون مع شركاء عالميين لتطوير نظام ذكي لتشخيص أمراض القلب خلال ثوانٍ. كما يتيح هذا الذكاء الفائق مراقبة المرضى عن بُعد، وتوقع الأزمات الصحية قبل وقوعها، مما يقلل العبء على الطواقم الطبية ويعزز كفاءة المستشفيات.

من جهة أخرى، وفي مجال الطاقة، بات الذكاء الاصطناعي الفائق أداةً لا غنى عنها في إدارة الشبكات الذكية وتحقيق الاستدامة. تشير إحصائيات مؤسسة McKinsey إلى أن هذه التقنية قادرة على رفع كفاءة الطاقة المتجددة بنسبة تصل إلى 35%، وتقليل الخسائر التشغيلية بنسبة 25%. الإمارات العربية المتحدة تستخدم بالفعل نظمًا ذكية في محطة "نور أبوظبي" لتحسين أداء الألواح الشمسية. أما عُمان، التي أطلقت محطة عبري للطاقة الشمسية بقدرة إنتاجية تفوق 500 ميجاواط، فهي مرشحة بقوة لاستخدام الذكاء الفائق في تحسين الأداء الحراري للألواح، وتحليل بيانات الطقس لتوجيه إنتاج الكهرباء بشكل ذكي، ما قد يوفر ملايين الدولارات سنويًا.

وبالانتقال إلى التعليم، فإن الذكاء الاصطناعي الفائق يعِد بثورة معرفية. فمن المتوقع أن تستخدم 90% من المدارس حلول تعليمية ذكية بحلول 2030، بحسب تقرير صادر عن SEOSandwitch. أنظمة الذكاء التكيفي باتت قادرة على تصميم منهج مخصص لكل طالب، وتحليل مستوى الفهم لحظيًا، بل وتقديم شرح صوتي ونصي متكامل. السعودية بدأت بالفعل بإطلاق منصة "مدرستي التفاعلية"، بينما طورت عُمان شراكات مع شركات تكنولوجية لتقديم تعليم قائم على الذكاء التحليلي لطلبة المدارس والجامعات. هذا التحول سيسهم في تقليص الفاقد التعليمي، وزيادة فرص التعلم التفاعلي، مما يؤهل أجيالًا جديدة لسوق العمل الرقمي.

وفيما يخص القطاع الزراعي، فإن الذكاء الفائق يقدم نموذجًا جديدًا للزراعة الذكية. وفق تقرير AgFunder لعام 2023، فإن استخدام الذكاء الفائق قد يؤدي إلى رفع المحاصيل بنسبة 40% وتقليل الهدر الزراعي بنسبة تصل إلى 60%. الإمارات عبر شركة "Pure Harvest" تُدير بيوتا زجاجية ذكية تستجيب للمناخ لحظيًا. في عُمان، حيث تُعد الزراعة قطاعًا محوريًا في المحافظات مثل الباطنة والظاهرة ومنطقة النجد في بادية محافظة ظفار، من الممكن تطبيق هذه الأنظمة لمراقبة حالة التربة، وتحديد توقيت الري المثالي باستخدام مجسات وتحليلات فورية، ما يؤدي إلى تحسين جودة الإنتاج وخفض التكاليف.

علاوة على ذلك، في مجال الحوكمة والإدارة العامة، يشكّل الذكاء الفائق ثورة في تقليص البيروقراطية. تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي لعام 2023 أشار إلى أن استخدام الذكاء في الحكومات قد يقلل وقت إنجاز المعاملات بنسبة 80%. الإمارات سبقت الجميع بإنشاء وزارة الذكاء الاصطناعي عام 2017، وتقدم الآن أكثر من 700 خدمة حكومية دون تدخل بشري عبر منصة "تم". في سلطنة عُمان، تسعى الحكومة إلى رقمنه 90% من خدماتها بحلول عام 2030 ضمن رؤية "عُمان 2040"، ويجري تطوير منصات تعتمد على الذكاء الفائق لتوجيه الموارد العامة والتخطيط الحضري المستقبلي استنادًا إلى بيانات آنية.

اقتصاديًا، يُقدّر تقرير Accenture أن الذكاء الاصطناعي الفائق سيضيف نحو 320 مليار دولار إلى الناتج المحلي لدول الخليج بحلول 2030. السعودية وحدها ستجني أكثر من 135 مليار دولار من تقنياته. أما سلطنة عمان، فقدّر تقرير Oxford Economics أن مساهمة الذكاء الاصطناعي في اقتصادها ستبلغ 12 مليار دولار خلال أقل من عقد، مع توجيه النمو نحو قطاعات التصنيع، النقل، والخدمات اللوجستية.

مع دخول العالم مرحلة ما بعد الرقمنه، لم يعد الذكاء الاصطناعي الفائق رفاهية تقنية أو مجرد أداة مساعدة، بل بات عنصرًا حيويًا لا يمكن الاستغناء عنه في صياغة استراتيجيات الأمن والدفاع المعاصرة. ففي تقرير صدر في الأول من مارس 2025، توقع محللون أن يبلغ حجم سوق الذكاء الاصطناعي العسكري العالمي نحو 10.5 مليار دولار خلال العام الجاري، على أن ينمو بوتيرة متسارعة ليصل إلى 33.6 مليار دولار بحلول عام 2035، بمعدل نمو سنوي مركب يبلغ 12.3٪. هذا المؤشر المالي لا يعكس مجرد تطور تقني، بل يشير بوضوح إلى سباق عالمي محموم بين القوى العظمى لتأمين موطئ قدم في ساحة التفوق التكنولوجي الاستراتيجي.

في ميدان المعركة الجغرافية، تحوّلت الطائرات بدون طيار إلى ركيزة حاسمة في الحروب الحديثة، إذ أظهرت التجربة الأوكرانية أن دمج الذكاء الاصطناعي الفائق في عمليات الطيران العسكري أدى إلى مضاعفة كفاءة الهجمات الجوية بما يتراوح بين ثلاث إلى أربع مرات. فقد ارتفعت نسب النجاح من 10 إلى 20% في السابق إلى ما يقارب 70 إلى 80% بعد إدخال تقنيات الاستهداف الذكي. وخلال عام 2024 وحده، اقتنت أوكرانيا نحو عشرة آلاف طائرة مسيرة مدعومة بالذكاء الاصطناعي الفائق، من بين ما يقرب من مليوني طائرة مسيّرة تم تصنيعها وتوزيعها.

ولا تقتصر المسألة على الاستخدام الميداني، بل تتعداها إلى تطوير جيل جديد من الطائرات القتالية المستقلة. فقد أعلنت وكالة DARPA الأمريكية، في سبتمبر 2024، عن نجاح أول مناورات جوية حقيقية بين طائرة F-16 مأهولة وأخرى غير مأهولة يقودها نظام ذكي بالكامل. وتخطط الوكالة لاستثمار ما يزيد عن 8.9 مليار دولار خلال الفترة الممتدة من 2025 وحتى 2030 من أجل تصنيع أكثر من ألف طائرة قتالية ذاتية القيادة، مصممة للعمل جنبًا إلى جنب مع الطيارين البشر في ساحات المعركة.

في الجانب الاستخباراتي، تسهم برامج متقدمة مثل Palantir وDelta في تحليل صور الأقمار الصناعية وبيانات الطائرات والاستشعار الأرضي لتحديد تحرّكات العدو المحتملة، واستباق أي تهديد قبل أن يتجسد فعليًا على الأرض. ووفق إحصائيات ميدانية، باتت نحو 40٪ من عمليات الاستطلاع العسكري بحلول عام 2023 تعتمد على خوارزميات التعرف على الصور المدعومة بالذكاء الاصطناعي الفائق، في نقلة نوعية قلّلت من الاعتماد على التحليل البشري التقليدي الذي يتطلب وقتًا وموارد ضخمة.

وفي سياق آخر، يشكّل الأمن السيبراني ساحة معركة لا تقل أهمية عن الأرضية أو الجوية. فقد أظهرت دراسات حديثة أن حجم سوق الأمن السيبراني العسكري مرشح للارتفاع إلى نحو 52 مليار دولار بحلول عام 2034. وحققت أنظمة الذكاء الاصطناعي أداءً باهرًا في هذا المضمار، إذ تمكنت خلال عام 2023 من كشف حوالي 85٪ من الهجمات على البنى التحتية الرقمية الحكومية، بينما أظهرت نماذج التعلم الآلي (ML) نسبة فعالية تقارب 98٪ في اعتراض هذه الهجمات، في إنجاز يعزز ثقة صانعي القرار في الإمكانات الوقائية لتقنيات الذكاء الاصطناعي الفائق.

أما في مجال أمن المطارات والنقل الدولي، فقد أصبح الاعتماد على الذكاء الاصطناعي الفائق ضرورة أمنية واقتصادية في آنٍ معًا. فأنظمة التحقق البيومتري القائمة على التعرف على الوجه أو بصمات الأصابع باتت تتيح معالجة دخول وخروج المسافرين في ثوانٍ، دون إحداث أي تعطيل يُذكر في حركة المطارات. وتشير تقارير إلى أن تقنيات التعرف على الوجه قد شهدت نموًا سنويًا بنسبة تصل إلى 40٪ في المرافق الأمنية حول العالم، كما أن الجمع بين بصمة الوجه، وقزحية العين، والصوت، يعزز من دقة التحقق الأمني ويقلل من نسب الخطأ التقليدية.

وفي الوقت نفسه، أصبحت أنظمة الأشعة السينية المدعومة بالذكاء الاصطناعي الفائق قادرة على تحليل محتويات الأمتعة بشكل لحظي، مما يساعد على اكتشاف الأسلحة أو المواد المحظورة دون الحاجة إلى فحص يدوي دقيق. كما أن خوارزميات ذكية مثل ViTPose وCNN BiLSTM باتت قادرة على رصد السلوك العنيف أو غير الطبيعي في محيط المطار، ما يُمكّن الجهات الأمنية من التدخل الفوري قبل تفاقم الخطر.

ومع توسّع المدن وازدياد التحديات الأمنية فيها، توجهت العديد من الحكومات نحو دمج الذكاء الاصطناعي الفائق في بنية المدن الذكية، بهدف بناء أمن وقائي يعتمد على الإنذار المبكر. ففي العاصمة الفرنسية باريس، وخلال أولمبياد 2024، تم توظيف أكثر من 60 ألف عنصر أمني، بالإضافة إلى مئات الكاميرات المتصلة بخوارزميات تحليل ذكية، وطائرات مسيرة ترصد الحشود وتراقب تحركاتهم في الزمن الحقيقي.

هذه التقنيات، التي تعتمد على تحليل السلوك الجماعي والتنبؤ بحوادث مثل ترك الحقائب دون رقابة أو التجمعات المشبوهة، ساهمت في خفض نسبة التدخل الأمني التقليدي بنسبة وصلت إلى 30٪. وفي العام 2023، سُجّل ارتفاع بنسبة 55٪ في انتشار كاميرات الأمن الذكية في الفضاءات العامة، ما يشير إلى حجم التوسع في هذا القطاع.

أضف إلى ذلك أن الذكاء الاصطناعي الفائق أصبح قادرًا على التنبؤ بمواقع الجرائم المستقبلية، من خلال تحليل بيانات تاريخية، وتغيرات الطقس، وتفاعلات وسائل التواصل الاجتماعي. وقد أظهرت الدراسات أن سوق التنبؤ الأمني مرشح للنمو ليبلغ نحو 99 مليار دولار بحلول عام 2031، وهو رقم يعكس اتساع الرؤية العالمية لضرورة الأمن الوقائي القائم على البيانات.

ورغم هذه النجاحات المبهرة، لا تزال هناك تحديات أخلاقية وقانونية تحيط باستخدام الذكاء الاصطناعي الفائق في المجالات العسكرية والأمنية. إذ يتوجب طرح تساؤلات جوهرية حول كيفية موازنة الأتمتة والقرار البشري، وضمان حماية خصوصية الأفراد في ظل أنظمة مراقبة ذكية شديدة الدقة، وتحديد الخط الفاصل بين توظيف الذكاء الاصطناعي كدرع واقٍ، أو كسلاح قد يتجاوز الحدود الأخلاقية.

يتضح أن الذكاء الاصطناعي الفائق لم يعد مجرد خيار مستقبلي، بل أضحى حاضرًا متجذرًا في مفاصل الأمن العالمي. وبينما تتسابق الدول إلى تسليحه وتفعيله في شتى المجالات، تبقى الحاجة ماسة إلى وضع أطر أخلاقية وتشريعية تحكم استخدامه، وتضمن ألا تتحول هذه التقنية الثورية إلى خطر يهدد القيم الإنسانية ذاتها.

في الختام، فإن الاستفادة من الذكاء الاصطناعي الفائق في سلطنة عمان لا تقف عند حدود التطبيقات الحالية، بل تمتد إلى آفاق أوسع تستحق الاستكشاف. يمكن لعُمان أن تتبنى مراكز ابتكار تعتمد على الذكاء الاصطناعي الفائق لتطوير حلول تنافس عالميًا في الأمن والدفاع والأمن السيبراني، والتنبؤ بالأوبئة، وحتى تخطيط المدن المستقبلية عبر نماذج رقمية متكاملة (Digital Twins). كما يمكن دمجه في قطاع التعدين لتحليل التربة بدقة وتوجيه الاستثمارات في استخراج المعادن النادرة، وفي النقل لتصميم شبكات نقل ذاتية التنظيم تعمل وفق بيانات فورية وتحسّن حركة المرور واستهلاك الوقود. من خلال تأسيس صندوق وطني متخصص بتمويل مشاريع الذكاء الفائق، وتطوير برامج تدريب وطنية متخصصة، يمكن لعُمان أن تنتقل من موقع المستخدم إلى موقع المبتكر والمصدر في هذا المجال، ما يعزز من سيادتها الرقمية واستقلالها التكنولوجي في عالم يتسارع نحو المستقبل بلا هوادة.

 

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة