محمد بن زاهر العبري
في عالم يتزايد فيه الاعتماد على وسائل الإعلام كمصدر رئيسي للمعلومة، تبرز أزمة خطيرة تهدد الوعي الجمعي، وهي ما يمكن تسميته بـ"الإعلام الأحمق". وسبب اختياري لهذه التسمية لهذا الإعلام، والذي كان يمكن أن يُطلق عليه الإعلام المُزيَّف أو ما شابهها من التسميات، أنه يُبدي كثيرًا من عدم الاكتراث بمعرفة الرأي العام لأجندته التي يعمل لأجلها ولعدم حياده، ومع هذا فهو غير مبالٍ بالمرة بذلك، وكأنه فعلاً يُقنع الآخرين بأنه يقدم الحقيقة.
هذا النوع من الإعلام يمتاز بالخصائص التالية:
الأولى: فقدان الحيادية، فهو غير محايد بالمرة، لأنه لم يتم إنشاؤه لنقل الخبر بكل حيادية، وإنما تم إنشاؤه لتحقيق أجندة محددة معينة. والمذهل في الأمر أنه لا يهمه أن يكتشف ذلك الرأي العام، فهو سيظل غير حيادي، وفيًّا لأجندته، تعصف به قاعدة: "إذا لم تستحِ فافعل ما تشاء".
الثانية: يتسم هذا اللون من الإعلام بأنه يفتقر إلى المحتوى العميق والجاد والهادف، لأن العمق في التحليل غالبًا ما يؤدي إلى عدم الحياد، لا سيما في زمن ارتفعت الأستار عن وجه الحقيقة، فما عاد أحد متخفٍّ خلف قناع. الإعلام الأحمق لن يقترب من عمق التحليل بتاتًا حتى لا يصفه المتابع الحاذق بعدم الحياد.
الثالثة: تضخيم التفاهة على حساب الحقيقة، ما يخلق بيئة مُضلِّلة للرأي العام، ويؤدي إلى تزييف الوعي، فتتجه الأذهان نحو قضايا جانبية وتتغافل عن القضايا التي تؤرق الأمة وتهدد وجودها.
الرابعة: إطلاق وبث المحاورات التي تُدار بالصراخ، أو في نشرات الأخبار التي تتحول إلى مسرحيات درامية، أو في متابعة التفاصيل التافهة لحياة المشاهير على حساب القضايا المصيرية. هل تتذكرون كيف كانت بعض قنوات الإعلام "الأحمق" تغطي حفلًا غنائيًّا في الوقت الذي كانت غزة تشهد مذبحة يومية؟
الخامسة: التلاعب بالحقائق، من مميزات الإعلام الأحمق، فهو يمارس خيانة حقيقية للمهنة، لتعمده التلاعب بالمعلومة، أو حجب الحقائق، أو تحوير الوقائع لخدمة أجندات سياسية أو تجارية أو أيديولوجية. في مثل هذا الإعلام، لا تكون الحقيقة هي الهدف؛ بل التأثير والتوجيه، حتى وإن كان ذلك على حساب المصداقية.
وينشط هذا النوع من الإعلام في فترات الأزمات والحروب؛ حيث تتحول الوسيلة الإعلامية إلى أداة دعائية، تعمل على تغذية الاستقطاب، وبث الكراهية، وتشويه الخصوم. كذلك يستخدم الإعلام غير النزيه التضليل بالصور، أو العناوين المضللة، أو نقل الكلام خارج سياقه، مما يربك المتلقي ويجعله فريسة للغموض والتشويش.
الإعلام "الأحمق" وغير النزيه يؤدي إلى نتائج خطيرة، أبرزها خلق وعي زائف لدى الجماهير، وتعزيز الانقسام داخل المجتمع، وفقدان الثقة في وسائل الإعلام كافة، بما فيها النزيهة. كما يسهم في خلق بيئة خصبة للشائعات ونظريات المؤامرة، ويقوّض القدرة على اتخاذ قرارات عقلانية مبنية على معلومات موثوقة.
بالطبع، لا يكمن الحل فقط في تراجع تأثير الإعلام الأحمق، بل في تواجد إعلام مسؤول، يقف مع الأمة في أزمتها، يُشخِّص عدوها ويعمل على كشف زيفه وعداوته للأمة.
ومواجهة خطر الإعلام الأحمق لا تأتي فقط من إصلاح الإعلام نفسه؛ بل أيضًا من رفع وعي الجمهور، وتعزيز ثقافة التفكير النقدي، وتربية أجيال قادرة على التمييز بين المعلومة الرصينة والدعاية المضللة. كما يجب دعم الإعلام المستقل، وتحصين المهنة بأخلاقيات صارمة تضع الحقيقة فوق كل اعتبار.
إننا مقبلون على عصر ستكون الأخبار قد أنتجتها أدوات الذكاء الاصطناعي، فربما نشهد تلاوة الجزار "نتن-ياهو" لسورة التوحيد، واعتراف شهداء الأمة بأنهم كانوا "عملاء"، وألوان قاتمة قادمة يتم استخدام تلك الأدوات لصناعتها وبيعها للرأي العام،
فهل نحن جاهزون لتوجيه أصابعنا نحو هذا اللون من الإعلام، ومعرفته بدقة متناهية، وتمييز الإعلام النزيه في سوق يختلط فيه الحلو بالحنظل؟