د. عبدالله باحجاج
البيان هو عبارة عن تشخيص سوق العمل من جهة، ووضع ضوابط جديدة يغلب عليها ضغوط ملف الباحثين عن عمل من جهة ثانية، وبعضها أثار الجدل الاجتماعي، ولا يزال حتى الآن، ولا يمكن إنكار الإيجابيات فيه، لكنها، بدت وكأنها لم تصل من تفكير مطابخها، لماذا؟ لسببين أساسيين:
الأول: تصريحات مستفزة صاحبت افتتاح مكتب التشغيل في قطر، وذلك قبل يوم من صدور البيان والضوابط، وأعطى الانطباع بخطوات مُماثلة في دول خليجية أخرى، وأظهر مشهدنا الداخلي وكأنه طاردٌ لخبراته وكفاءاته وأبنائه إلى محطينا الخليجي، وأعاد التذكير بهجرة العُمانيين إلى الخليج في ستينيات القرن الماضي، لكن هذه المرة بغطاء حكومي، وقد قُدِّم بمثابة إنجاز غير مُتوقع! بينما قدمته بعض وسائل الإعلام القطرية بطريقة حضارية ومهنية تُراعي الحساسيات السيكولوجية والسياسية بين الشعبين؛ حيث وضعته في إطار الندية والتكامل بين البلدين، وصوَّرته بثنائية التبادل من منظوريْ التشغيل للباحثين العُمانيين، واكتساب الخبرات للقطريين؛ أي أن الهجرة مُتبادلة. وهنا المهنية، ونشيد بها رغم تحفظاتنا على خيار الهجرة، توقيتًا وعددًا.
الثاني: تركيز البيان على أصحاب السجلات ما دون العشرة عمال وما فوقها، وإلزامها بالتعمين في أجل زمني قصير جدًا، دون تحليل الرقم 245 ألف منشأة صُنِّفَت على أنها لا تضم أي مواطن عُماني ضمن قواها العاملة، بينما تُوَظِّف ما يزيد على مليون و100 ألف وافد، وكذلك إمهال المُتفرِّغ لإدارة مشروعه التجاري سنةً من تاريخه، وبالتالي عزَّزت القلق في السيكولوجيات الاجتماعية من استهداف مصادر رزق للمواطنين، وندرة فرص عمل في البلاد؛ مما بدا في التصور الذهني الاجتماعي وكأن الباحثين عن عمل ليست أمامهم خيارات كثيرة في بلادهم.
الفاصل الزمني بين الحدثين الأول والثاني يومٌ واحدٌ فقط، وكأنَّ الرسالة تُخاطِب الذهنيات بإلزامية قبول الفرص الداخلية والخارجية، مهما كان مكانها وراتبها، ومما زادها سوءًا تصريحات وتجاذبات في وسائل التواصل الاجتماعي مع مسؤول له شخصية اعتبارية ظهرت فجأةً، وشهدنا سِجَالات لم ينزل فيها الخطابات الرسمية إلى مستوياتها أبدًا؛ مما أوقع الرأي العام تحت ضغوط كبيرة تمس حقوقًا أساسية لهم.
لكن.. كل من يقرأ البيان مُجددًا سيخرج منه في المقابل بإيجابيات كثيرة، منها ذات أبعاد استراتيجية، علينا التوقف عندها، والدعوة إلى الاهتمام بها، والتعامل مع البيان وفق قاعدة الأهم والمُهم، وسنتوقف عند المحاور التالية:
أولًا: البيان يدعو لإعادة هيكلية الاقتصاد. وهذا من أبرز الانكشافات المهمة في البيان؛ حيث إن وجود قرابة 1000 مُنشأة كبيرة تُوَظِّف قرابة 200 ألف عُماني مقابل 245 ألف وافد؛ فهذه رسالة لصُنَّاع القرار الاستراتيجي في بلادنا، مفادها أن الخلل في سوق العمل مرده إلى الخلل في هيكلة الاقتصاد، ومن ثم يستوجب حل الخلل في هيكلة سوق العمل، من خلال إعادة هيكلة الاقتصاد؛ إذ لو كان عندنا الآن 1000 مُنشأة أخرى من حجم الـ1000 الواردة في البيان، لن تكون لدينا إشكالية مرحلية مع قضية الباحثين عن عمل. وهذه رسالة في توقيتها الزمني العاجل؛ فبلادنا الآن في حقبة جذب الاستثمارات الكبرى، وزيارات عاهل البلاد- حفظه الله ورعاه- الخارجية تهدف إلى جذب استثمارات ضخمة، ومن ثم ينبغي أن يكون شغل الحكومة الشاغل إنتاج فرص عمل- كمًّا ونوعًا- منها.
ولدينا نموذج حديث نُقدِّمُه كأكبر الاستدلالات وهو: إقامة مصنع تطوير وتصنيع معدات وأبراج توربينات طاقة الرياح، الذي من بين أبرز منافعه توظيف 1080 شخصاً مباشرةً، وكذلك توطين صناعة تقنياته، كما إن نصف هذا العدد سيتدرب خارج البلاد لكسب المعرفة والخبرة، وسيرى المصنع النور في 2026، وهذه فترة زمنية قصيرة، ومثل هذا المشروع هو الذي ينبغي استهدافه والرهان على المشاريع المماثلة له، وبلادنا مؤهلة لذلك، من حيث استدامة استقرارها، وقوتها الناعمة التي أصبحت من خلالها بوابة دائمة لصناعة السلام والاستقرار الإقليمي والعالمي في البحر والبر، كما حدث مؤخرا من خلال توسط مسقط بين واشنطن وجماعة أنصار الله في اليمن.
علاوة على أن الشركات العالمية مُهتمة بجغرافية بلادنا الجيوسياسية المُطلَّة على بحار مفتوحة، بعيدةً عن التوترات التقليدية وحتى الحديثة، لذلك؛ فالتفكير ينبغي أن يتجه نحو توطين شركات عملاقة في تقنيات الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة والتحول الرقمي والبرمجة والفضاء والطائرات المسيرة واللوجستيات؛ ففيها ضمانة لتنافسية البلاد في سباق إقليمي وعالمي مُحتدم، وفيها فرص عمل آمنة ومُستدامة.
وينبغي أن يتزامن مع هذا المسار تطوير وتأسيس بعض المشاريع الكبيرة القائمة، وجعلها مُنتجة لفرص عمل كمية ونوعية، نذكر هنا- على سبيل المثال- مطار صلالة الذي تدعو الحاجة المُلحَّة إلى تحويله لمطار دولي، وكذلك ميناء صلالة للحاويات، حتى يكون له انعكاسات أكبر على الحركة التجارية الداخلية. إلى جانب إقامة قطار سريع للركاب والبضائع بين الموانئ والمناطق الحرة في البلاد.. إلخ.
هذه مجرد أمثلة تُوضِّح أن إعادة هيكلة الاقتصاد وتعزيزه، سيؤديان تباعًا إلى إعادة هيكلة سوق العمل، ونقترح تأسيس لجنة فكرية رفيعة المستوى تكون تابعة للسُلطة التنفيذية تحمل مسؤولية ملف التشغيل وتأهيل كوادرنا البشرية الوطنية لمستقبل اقتصادنا الجديد، وتكون من مهامها الأساسية مراعاة التوازن الطبيعي للدخول في البلاد. وهنا نحمل هَمَّ مخاطر الصناعة الكمية للدخول الدنيا (عند 325 ريالًا)؛ فذلك يمس جوهر استقرار البلاد في حقبة الانفتاحات والاختراقات والأطماع الجيوسياسية.
ثانيًا: التصنيفات الثلاثة للمنشآت وفرص العمل؛ إذ نحو 1000 مُنشأة كبيرة تُوَظِّف قرابة 200 ألف عُماني مقابل 250 ألف وافد؛ أي بنسبة تعمين تصل إلى 44%، وهنا مجال للتعمين بهامش معقول. وقرابة 19 ألف مُنشأة تُشغِّل نحو 60 ألف عُماني مقابل 300 ألف وافد، بنسبة تعمين لا تتجاوز 17%؛ أي ما يعادل 3 مواطنين فقط مقابل كل 15 وافدًا في كل مُنشأة، وهذا يعني بالمقابل أن هناك فرص عمل كثيرة متوفرة، ووضع هذه المُنشآت في البيان في المرتبة الثانية بعد المُنشآت الكبيرة، وهو ما يُشير إلى أنها لا تندرج ضمن الصغيرة والمتوسطة.
وتأجيل المساس بأكثر من 245 ألف مُنشاة صفرية التعمين حتى الانتهاء من دراستها، علمًا بأنها تمثل مصدر دخل لإيرادات الدولة (ضرائب ورسوم) كما إنها تساهم في تنشيط الحركة التجارية والاقتصادية والعقارية والتعلمية في البلاد. ومن هنا، يُحتَّم دراستها لمعرفة حجم منافعها الاجتماعية والاقتصادية والتجارية.
ثالثًا: جهود لم تُعط حقها: ورد في البيان كذلك إطلاق حزمة تشغيلية على مستوى البلاد، لكن البيان لم يُعطها حقها؛ فقد جاءت في الجزء الثاني من البيان، وقد باشر الكثير من الباحثين عن عمل في بعض المحافظات في استحقاقها، فيما تنتظر أخرى كمحافظة ظفار حصتها من التوزيع الجغرافي، وقِيل لنا إنِّها ستكون قريبًا. فلماذا لم تتصدر البيان مع التفاصيل لدواعي صناعة التفاؤل؟
رابعا: الحل القصير الأجل: صحيحٌ أننا الآن تحت ضغوط إيجاد فرص عمل لأكثر من 100 ألف باحث عن عمل، وقد أصبح خيار إعطاء الأولوية للشباب الباحثين عن عمل، ومنح الإناث "منفعة الباحثين" ناضجًا ومُلحًّا الآن، وسنجد أمامنا أكثر بقليل من نصف عدد الباحثين من الشباب، وربما 48% من الإناث، ويمكن توفير فرص عمل لهم في الشركات الحكومية والخاصة التي تقع في فئتي 1000 مُنشأة كبيرة، و19 ألف مُنشأة، وتحميل مؤسسات حكومية عسكرية ومدنية حصصًا إضافية.. إلخ، وذلك لدواعٍ مُلحَّة وعاجلة لهذا الحل.