د. أحمد بن علي العمري
"خالف تُعرف".. هذا هو المبدأ الذي يعمل به ويطبقه دونالد ترامب، الرئيس الأمريكي السابع والأربعون، والذي أتى للرئاسة وللفترة الثانية بفوز ساحق لم يحدث منذ عدة عقود، اكتسح به الديمقراطيين وحوّل خارطة أمريكا إلى اللون الأحمر، لون حزبه الجمهوري، وليس هذا فحسب، بل وبأغلبية أيضًا في مجلسي النواب ومجلس الشيوخ ليحكم قبضته الحديدية على الكونغرس ويحقق كل ما أراده وتمناه.
فإذا به يرفع سيف النصر زهوًا وفخرًا، فالرجل مهووس بالشهرة منذ أن استضاف طاقم فيلم في فندقه مجانًا مقابل أن يظهر في لقطة خاطفة في الفيلم، وذلك في بداياته، ثم إلى حلبات المصارعة الحرة، وحاليًا في مسرح السياسة العالمي الواسع وغيرها.
لقد ركّز الرجل في تعييناته على الولاءات وليس بالضرورة الكفاءات، وقرّب القريبين منه والتابعين له.
والأمثلة على هذا كثيرة ومتنوعة، نذكر منها على سبيل المثال وليس الحصر: ماركو روبيو الذي عيّنه وزيرًا للخارجية، ثم جمع 4 مناصب في وقت واحد في أمر غير مسبوق ليُطلق عليه "وزير كل شيء"، وأيضًا إيلون ماسك، أكبر الداعمين لحملته، الذي ولاه ملف مكافحة الدولة العميقة وتخفيض التكاليف وتقليل عدد الموظفين؛ حيث وصل عدد المسرّحين من أعمالهم حتى الآن إلى 200 ألف موظف، وقد قرر ماسك مؤخرًا تخفيف العمل مع إدارة ترامب لإعطاء المزيد من الوقت لشركاته. كما أن الرجل أحضر طفله الصغير للبيت الأبيض عدة مرات، ومنها عند توقيع مراسيم رئاسية، ولم يظهر ولو مرة واحدة مرتديًا ربطة عنق، والتي أعابها الرئيس الأمريكي على الرئيس الأوكراني الذي حضر للبيت الأبيض بدونها.
وأيضًا ويتكوف، صديقه منذ أربعين عامًا، وهو رجل عقاري، أسند إليه أَسْخَن الملفات، وهي ملف غزة والحرب الروسية الأوكرانية وملف إيران النووي، حتى وزير الدفاع الذي كان مقدمًا لبرنامج تلفزيوني، وغيرهم.
وبعد أن اتخذ جميع الإجراءات ضد خصومه، بدأ الرجل في القصف على جميع الاتجاهات. فبدأ بالحملة المسعورة ضد الهجرة غير الشرعية، وحتى بدون أي محاكمات، ضاربًا عرض الحائط جميع التحديات القانونية واللوجستية، وطبعًا هذا أثر على اليد العاملة ورفع سعرها، ثم أعلن ضم كندا، وصرح أكثر من مرة ولا يزال بأنها ستكون الولاية رقم 51 للولايات المتحدة الأمريكية، وأيضًا ضم غرينلاند التابعة للدنمارك.
بعدها نظر بطرف عينه إلى الشرق الأوسط وأبدى رغبته في امتلاك قطاع غزة لتحويلها إلى منتجع سياحي، وأطلق عليها "ريفييرا الشرق الأوسط"، وطبعًا بعد تهجير سكانها الذين طلب من مصر والأردن استيعابهم، وهدّد بفتح أبواب الجحيم لإنقاذ الرهائن الإسرائيليين، مستغربًا لماذا انسحبت إسرائيل من قطاع غزة من قبل.
كما انسحب من منظمة الصحة العالمية ومن مجلس حقوق الإنسان ومن اتفاقية باريس للمناخ، وفي الوقت الذي يتجه فيه العالم إلى التجارة الحرة والسوق المفتوحة، فجّر "القنبلة النووية" في الاقتصاد العالمي بفرض الرسوم التجارية على العالم أجمع دون استثناء، إيمانًا منه بأن ذلك سيعزز الاقتصاد الأمريكي؛ بل وعاد إلى إعادة فتح مناجم الفحم وتشجيعها، وكأنه يريد أن يعود للعصر الحجري في خضم التكنولوجيا وأوج وقتها.
ولكنه عندما وجد الند القوي، كالتنين الصيني، بدأ يتراجع ويعلن أن الرئيس الصيني صديقه، وقد أعلن أنه تحدّث معه هاتفيًا، كما أعلن ضرورة مرور السفن الأمريكية العسكرية والتجارية عبر قناتي بنما والسويس مجانًا.
لقد أعلن من قبل أنه لو كان في البيت الأبيض لما حدثت حرب غزة ولا الحرب الروسية الأوكرانية، ليعلن بعدها أنه سينهي حرب غزة في أول يوم في البيت الأبيض، وحرب روسيا وأوكرانيا خلال أربع وعشرين ساعة.
لقد وصف نفسه بأنه الشخص المختار لمواجهة الصين، وقد وقع حتى الآن أكثر من 140 مرسومًا رئاسيًا.
لقد انتخب العرب والمسلمون في ميشيغان وغيرها من الولايات ترامب، وذلك لوعده بإنهاء حرب غزة، والذي لم يحدث.
لقد تعودنا من الرؤساء الأمريكيين الرزانة والهدوء والحنكة والدهاء السياسي، ولكنه مختلف عن الجميع.
فبعد أن تمكن من كل شيء، بدأ وكأنه ينزع العباءة الجمهورية لتحل محلها العباءة "الترامبية"، فكل شيء يجب أن يكون "ترامبي"، حتى الطلاء الداخلي للبيت الأبيض مطلي بالذهب، يتوسطه بالكتابة العريضة اسم "ترامب"، وجميع المسؤولين لابد أن يذكروا اسم "ترامب" ويشيدوا به في كل تصريحاتهم.
فهل نحن أمام ملك قادم؟!
لقد تمنّى الرجل أن يكون بابا المسحيين القادم، وإن كان على هيئة دعابة، وقد أعلن البيت الأبيض أنه سيكون هناك استعراض عسكري بمناسبة عيد ميلاد ترامب في 14 يونيو!
لقد أعابوا على أحد الرؤساء عندما أعلن أنه ملك ملوك قارته، فماذا سيقولون عن "ملك ملوك العالم"؟
جرت العادة في الولايات المتحدة الأمريكية أن يتم تقييم أداء أي رئيس في أول 100 يوم من تنصيبه، على الرغم من بقاء 1361 يومًا في الفترة الرئاسية.
ولكنه سبق الجميع في خطابه أمام حشد كبير من أنصاره في ميشيغان، معلنًا أنه أنجز أفضل 100 يوم على الإطلاق، وأنه أنجز في هذه المئة يوم ما يعادل مئة عام من إنجازات الآخرين.
ولكن إذا نظرنا إلى الواقع، نجد أنه- كما يقول المحللون- زلزال سياسي اقتصادي عالمي، وحالة من عدم اليقين وفوضى عالمية.
فقد أوقف الدعم الفيدرالي المالي عن الجامعات، والناتج عن هذا حتمًا إضعاف البحوث التي ميزت أمريكا ورفعت من شأنها، ويرغب في تحويل التعليم إلى الولايات المحلية ليصبح محليًا وليس قوميًا.
كما فقد ثقة الحلفاء قبل الأعداء، وسجلت الأسهم أسوأ أداء لها منذ السبعينات، كما سجل أسوأ سعر للدولار، وأسعار النفط العالمية في مهب الريح بلا عنوان ولا اتجاه.
أما شعار "أمريكا أولًا"، فقد فُسّر على أن أمريكا لوحدها، وأن أوروبا "أخيرًا"، كما رفض الدعم الاستخباراتي والجوي للأوروبيين أمام روسيا، ووجّه رسالة حادة لهم.
كما أعلنت بريطانيا أن هناك قلقًا دائمًا من الخطوة المقبلة لأمريكا، حيث لجأ إلى أسلوب التهديد لجلب الاستقرار، وهذا طبعًا من غير الممكن.
أما فيما يخص الشرق الأوسط، فقد تماهى مع إسرائيل، بمعنى "افعلوا ما بدا لكم، ودعوني أقول ما أريده"، وسمح لشحنات الأسلحة إلى إسرائيل التي كان قد أوقفها بايدن، وغضّ النظر عن حرب غزة وضرب إسرائيل للبنان وسوريا.
وعلى الرغم من أنه أعلن في خطاب تنصيبه أنه يحمل رسالة السلام للعالم، فقد بدأ بهجوم مكثف على اليمن منذ منتصف شهر مارس ولا يزال حتى الآن.
فهل العالم بصدد كتابة تاريخ جديد ليقال فيما بعد: "العالم قبل ترامب وبعد ترامب"، كما نقول الآن: "ما قبل 11 سبتمبر وما بعدها"؟
فهل هذه بداية النهاية؟ أم بماذا يمكن تفسيرها؟
والله يستر لما هو قادم.