د. عبدالله باحجاج
تساؤل العنوان أعلاه ليس استشرافيًا، وإنما هو رصد وتحليل لمسار قد بدأ تدشينه منذ خمس سنوات؛ لذلك فهو من الأهمية السياسية طرحه لدواعي فتح الآفاق السياسية والأمنية بماهية المسير الجديد في الخليج، حتى نضع فوق كل الطاولات السياسية الخليجية التحولات الكبرى غير المسبوقة والراديكالية التي تطرأ على مفهوم الدولة الوطنية في الخليج، وبالذات في مجالات حقوق المواطنة والهوية الثقافية للمواطنة، ومن ثم التحديات الكبرى لما بعد حقبة الدولة الوطنية، وطبيعة المفهوم البديل للدولة الوطنية التي أسسها الرعيل الأول من قادة الخليج -رحمهم الله- من حيث مدى ملاءمته للهوية الثقافية للمواطنين، أي للبنيات الاجتماعية والثيولوجية (الدينية) في المنطقة؟ وهل سيتم الانتقال إليه بسهولة مُمكِنة أم سيواجه تحديات وجودية سياسية؟
وقد اهتدينا لهذا الموضوع المُهم بعد كتابة تحليل عن الدروس الاستثنائية لدول الخليج العربية من الحرب الصهيونية على إيران، سينُشر قريبًا في محتوى خليجي متخصِّص في الشأن الإقليمي.
ونودُ هنا أن نوضِّح المقصود بمفهوم الدولة الوطنية، بعدما لاحظنا خلال نقاشنا مع الكاتب والباحث السوداني غسان علي عثمان، بحضور ثلة من مفكري ظفار في منزل المستشار المحامي سعيد سعد الشحري؛ حيث إن هذا المفهوم الذي يطرحه علم السياسة، خاصةً خلال القرون الثلاثة الأخيرة، لم يصل لمستوى التلاقي مع علم السوسيولوجيا (علم الاجتماع) من وجهة نظره؛ لذلك فالمقصود بمفهوم الدولة الوطنية هو: الدولة التي تُمارس السيادة على الأرض والشعب، وتصوغ سياساتها الداخلية بما يضمن أمن وطنها ومواطنيها، كما إن سياستها الخارجية تعكس رؤية قيادتها بما يخدم الدولة ومصالحها الاستراتيجية، وبعبارة أدق هي أن: "الدولة لكل مواطنيها وفق هويتهم الثقافية"، وهذه الهوية هي التي تمنح المواطنة بعدًا شعوريًا وروحيًا، بحيث لا تكون مجرد رابطة قانونية، وفق فقهاء القانون الدستوري.
المُلاحظ أنه يتم تأسيس مفهوم جديد للدولة في الخليج يتعارض شكلًا وجوهرًا مع مفهوم الدولة الوطنية التي صنعت الاستقرار الداخلي في دول المنطقة أكثر من خمسة عقود، من خلال أدوارها الاجتماعية التي صنعت "الشرعية" للدولة و"المشروعية" للأنظمة. وعوضًا عن تعزيزهما بصيغ متطورة لكي تواكب المواطنة عملية إصلاحات الأنظمة المالية والاقتصادية لمواجهة الأزمات المالية؛ نشهد العكس: تُبنى وظائف جديدة من خارج منظور السيرورة الطبيعية للإصلاح والتحديث، ومن منظور الصيرورات الراديكالية، فُكِّكت من خلالها مكتسبات الدولة الوطنية/ الوظيفية، ونجمت عنها -مع التباين- آلام اجتماعية متصاعدة تؤسس على قاعدة الاستدامة، كإقامة منظومة للضرائب والجبايات والرسوم، وتقليل إنفاق الحكومات على المجتمعات، وبروز ظواهر المرتبات الضعيفة والمحدودة، والبطالة والمُسرَّحين... إلخ. ومن خلالها تظهر ظواهر اللامساواة أو الطبقية في ظل تراكم الاحتقان ومشاعر الحرمان للمواطنين.
وهذا وراؤه الاستعانة بخبراء أجانب قدّموا وصفات ليبرالية بجرعات أكبر من السابق، لا تصلح في مجتمعاتنا الخليجية، حتى أنها لم تُراعِ التدرج في التطبيق. مما يظهر لنا الآن أن هناك مفهومين للدولة في الخليج: مفهوم الدولة الوطنية/ الوظيفية، وسيصبح من الماضي الجميل إذا لم يُكبح جماح نظام الليبرالية الجديدة الذي يقلّص من أدوار الدولة الاجتماعية؛ ومفهوم دولة المجتمعات الدولية في الخليج؛ فالانفتاح الليبرالي الجديد في الخليج يُعزِّز الوجود النوعي والكمي للديموغرافيات عابرة الحدود بسكانها الجُدد وهوياتهم الثقافية، ويَمنح لهم حقوقًا كحقوق المواطنة. وهُنا ستصبح المواطنة مجرد رابطة قانونية مدعومة بحمايات محدودة ومؤقتة؛ بعيدًا عن منظومة الحقوق الوطنية، وستُفرغ من عمقها الوجداني وهويتها الثقافية؛ لأن خصوصياتها المحلية ستتآكل في بحور الديموغرافيات وهوياتها وحقوقها المدنية والدينية والاقتصادية، بحكم ما يملكونه من مال ونفوذ. ولن يكتفوا بذلك؛ بل ربما يضغطون حتى الحصول على الحقوق السياسية من خلال إقامتهم المُستدامة، وربما يعملون على إحداث اختراقات داخلية لأغراض مُتعددة ثيولوجية وسياسية، ولِمَ لا؟! وهم يملكون المال والتوظيف... إلخ.
ومثلي من المُخضرمين يعلمون مدى أهمية وصلاحية مفهوم الدولة الوطنية في الخليج من خلال أدوارها الوظيفية، واستدامتها في استقرار الدول الخليجية سياسيًا وأمنيًا واجتماعيًا، بحيث يُمكن القول إن الدولة الوطنية ضرورة وجود. لذلك لا بُد من التمسك بالأدوار الاجتماعية للدولة الوطنية في الخليج مهما كانت طبيعة النظام الاقتصادي الذي تتبناه، ليبراليًا أو نيوليبراليًا... إلخ؛ فالليبرالية ليست شرًا خالصًا، وإنما في جوانب مُغالاتها. ولا تُشكِّل هذه القضية أي درجة اهتمام سياسي خليجي؛ حيث إن كُل الاهتمامات تتركز على الأبعاد المالية وإعادة توزيع الثروات لا على صُنعها من مصادر إنتاجية جديدة. فهل هي ناجحة؟
أيُ تحليل موضوعي لتجربة مسار الإصلاحات المالية والاقتصادية في المنطقة الخليجية طوال السنوات الخمس الماضية، سيُخرج منه أنها لم تصنع أو حتى تؤسس اقتصادًا إنتاجيًا مُستدامًا، رغم رفع شعاراتها، ورغم توفر كل الإمكانيات لذلك، وإنما كل ما تعمله هو إعادة تدوير الثروات لصالح فئات على حساب أخرى، وإفقار الطبقة المتوسطة، وارتفاع بمعدلات البطالة، واتساع التفاوت واللامساواة. ونجاحها يكمُن في تحقيق فوائض مالية سنوية بالموازنات العامة، وفي اندماج الدول الخليجية في الرأسماليات العالمية؛ حيث انتقلت الدول الخليجية الست إلى تكامل أوسع مع الأسواق العالمية، وتم إدراج دول المنطقة ضمن مؤشرات الأسواق الناشئة مثل مؤشر MSCI، وهذا على حساب أهم ركن من أركان الدولة الخليجية، وهو السكان.
مع العلم أن الحقبة الزمنية الراهنة تمنح للدول الست فُرصًا تاريخية غير مسبوقة للتحرر من الهيمنة الغربية، وبناء اقتصاد جديد مُتحرر من ممرات التوريد والاستثمار التقليدية- حسب رأي خبراء- والتوجه نحو التكامل الخليجي وفق أجنداتها التاريخية، والاعتماد على الصناعات التحويلية واقتصاد المعرفة في بناء اقتصاد قوي ومتماسك بعيدًا عن صندوق النقد الدولي. وأيُ استمرارية في التحولات لأدوار الدولة في الخليج في ظل ما سبق، وفي ظل منافسة محتدمة للديموغرافيات الوافدة بالمال والنفوذ واحتكار السوق والوظائف... إلخ، سيترتب عليه الكثير من التداعيات، أبرزها انتشار قضايا وظواهر سلبية كبيرة، كالتشدد الفكري والسلوكي والقبلي والمذهبي... إلخ، أي سيادة الهويات الثقافية الفرعية على الهوية الثقافية العامة للدول.
وبصراحة، نرى ذلك فخًا مُستهدفًا لاختراق المجتمعات في الخليج لغايات سياسية لحقبة مُقبلة. وكل من تعمَّق في أسباب نجاح الاختراقات الصهيونية والإقليمية والعالمية الأخرى للداخل الإيراني قبل الحرب على طهران، سيجد دور هذه الاختراقات في حرب الاثني عشر يومًا، وتأثيرها في اغتيال قيادات إيرانية وعلماء بارزين وتدمير منشآت استراتيجية. ولولا قوة طهران الباليستية والطائرات المسيّرة لكُنَّا نتحدث الآن عن النصر المُطلق للصهاينة ومَنْ ورائهم. ونقول كذلك: كل من تعمَّق في الأسباب الإيرانية سيخرج بأن الدول في الخليج تُنتج الأسباب ذاتها التي مكَّنت أعداء إيران من اختراقها لعدة سنوات. لذلك تنبهاتنا للخليجيين: الحذر من إفقار شعوبهم، ومن تجذُّر اللامساواة/ الطبقية، وتراكم اليأس والإحباط بين شبابها؛ فهذه مداخل كبرى لاختراقاتها الداخلية.
وأخيرًا، الدولة الوطنية حتمية وجودية بامتياز للدول في الخليج؛ فلنُبادر إلى تقييم وتقويم المسير من منطلق كبح جماح التحول نحو الليبرالية الجديدة.