ملف التشغيل.. حقيبة الهجرة ووسادة الغربة


علي بن سالم كفيتان

عبَّرنا في مقالات عدة عن تبعات تراكم أعداد الباحثين عن عمل والافتقار لحلول يُمكنها حلحلة ملف تشغيل العُمانيين، ومنبع القلق ليس من جانب اقتصادي فحسب؛ بل له تبعات أخرى كثيرة طرحناها في سلسلة مقالات سابقة، ومنها بُعد الأمن والسلم الاجتماعي، وتأخُّر سن الزواج، وتراجع متوسط المواليد مع زيادة مضطردة في أعداد الوافدين.

هذا المشهد بكل تجلياته، يجب أن يُؤخذ في الحسبان عند النظر في هذه القضية الوطنية المُستعصية، ولا يجب تحميل وزارة العمل جميع تبعات هذا الملف الشائك؛ فالوزارة حسب ما تبيَّن لنا لا تمتلك العصا السحرية لاتخاذ قرار بتوظيف الباحثين عن عمل، والأمور تحكمها موازنات معتمدة لكل جهة حكومية وخطط خمسية تسير وفق نظام للتوازن المالي، في الوقت الذي بات الملعب الوحيد للمناورة هو شركات القطاع الخاص. وفي هذا الإطار، يتم الاجتهاد لخلق الفرص مع قطاع عنيد ومُتمرِّس في المُماطلة والتفاوض الهادئ واللجوء لأساليب ضغط غير تقليدية على الحكومة، مُستغلين كل الثغرات المختلفة؛ سواء القانونية مثل الحد الأدنى للأجور، أو حتى الإجراءات العاجلة، وربما قد نصفها بالارتجالية التي يُولِّدها الضغط الاجتماعي. ولا شك أنهم يكسبون النقاط وبجدارة، من خلال طلب الدعم المباشر لبناء فرص كالتدريب والتأهيل، وتارة من خلال التدريب على رأس العمل، والتدريب المقرون بالتشغيل، وجميعها برامج مدفوعة من الخزانة العامة للدولة. وفي نهاية هذا الماراثون، يجد الباحث نفسه بعد أشهر أو حتى سنوات على قائمة البطالة.

السؤال المهم الذي يتعين الإجابة عليه بكل شفافية هو: لماذا كل هذه البرامج لم تُولِّد فرصًا حقيقية ومستدامة للمواطن؟

لا شك أن الهوية الوطنية مرتكز أساسي لبناء وترسيخ المواطنة السليمة القائمة على الشعور بالأمان الوظيفي، القائم على وجود مصدر دخل مستدام يَفِي بالاحتياجات الضرورية للإنسان من مأكل وملبس ومسكن وتكوين أسرة، وصولاً الى الحياة الكريمة. وهنا الأمر لا زال في إطار المطالب الأساسية للحياة، ولم يصل لمستوى الرفاه الاجتماعي المنشود في الخطط والرؤى بعيدة المدى؛ فالإنسان يطمح للوصول إلى الرفاه في حياته التي يعيشها ويحب أن يلمس التغيير وهو بكامل حيويته ونشاطه، ولا يكترث كثيرًا بما سوف يجري بعد مغادرة الحياة، أو عندما يبلغ من الكبر عتيًا ويصبح على هامش الدنيا؛ حيث إن كل ملذاتها ونعيمها وفرصها وهو في ذلك السن لا طعم لها ولا رائحة، وعندما يرغب بمشاهدتها في ذلك الدهر المتأخر من العمر يبحث له عن نظارة طبية بعدسة سميكة ونفس معتلة وروح واهنة، قائلًا: لقد أقبلت متأخرة، فيودع نظارته في حافظتها، ويركن الى زاوية مسجد أو مصلى باحثًا عمَّا يُقرِّبه إلى خالقه، فما تبقى من سنوات الكهولة، ليس كما مضى؛ لهذا نجد القادة العظام على مر التاريخ البشري يسابقون الزمن لحرق المراحل، كي تستمع الأجيال التي عاشت معهم بربيع العمر مُخلدين ذكراهم في نفوس الصغير والكبير.

إنَّ عدم وضوح الرؤية والتعامل بمنطق الفعل ورد الفعل، يقود الى الأخطاء، وهنا أُعرِّج على قرار وزارة العمل الأخير بأن يُوظِّف كل صاحب سجل تجاري أو عمل خاص على الأقل عُمانيًا واحدًا في شركته أو مؤسسته أو مشروعه، مرتكزين على بيانات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات التي تشير لوجود حوالي 364 ألف مؤسسة وشركة وصاحب عمل خاص مسجل في البلاد، منها 1000 شركة كبيرة تُوظِّف 200 ألف مواطن مقابل 245 ألف وافد، و19 ألف شركة ومؤسسة توظِّف 60 ألف مواطن مقابل 300 ألف وافد، وأكثر من 245 ألف شركة ومؤسسة وصاحب عمل خاص لا يوظفون أي مواطن عُماني أبدًا.

وأعتقدُ ولستُ جازمًا أن هذا الطرح نابع من أحد الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي، تلقفته الوزارة دون النظر بعينٍ مُتفحِّصة لسوق العمل في القطاع الخاص وقدراته وفرص تمكينه، فليس من المنطقي أن يُلزَم حلَّاق أو حتى صاحب مغسلة ملابس أو مالك بقالة بسيطة أو امرأة تقوم على عملها الخاص بتوظيف عُماني؛ فالأصل أن صاحب المؤسسة في غالب الأحيان هو عُمانيٌ؛ سواء أكان واقفًا على عمله أو مُستترًا خلف أجنبي. والأكيد أنه مُستفيد؛ سواء أكان بمبلغ قليل أو كثير، والأصل أن الأجنبي مستأجر مسكنًا تعود ملكيته لعُماني، ويقتات من مطعم يُفترض أنَّه مملوك لعُماني آخر ويدفع فواتير المياه والكهرباء والصرف الصحي والاتصالات للحكومة، ويقدم خدمة بسعر يتناسب مع جيب المواطن في ظل التضييق المتولد من خفض الدعم عن الخدمات العامة والوقود، واستحداث الضرائب بشتى أنواعها وأشكالها.

وهنا نقول وبكل ثقة، إنهم سيوظفون العُماني الواحد، ولكن من سيدفع راتبه؟!

في الغالب المستهلكون العُمانيون سيتحملون ذلك؛ لأن الخدمة ستُقدَّم بسعرٍ أغلى لتغطية فارق تكلفة الموظف الجديد، وكأنك يا بو زيد ما غزيت!

ما زاد الطين بلة، تصريح أحد المستشارين عبر مواقع التواصل الاجتماعي عن جهود الوزارة لتوليد فرص عمل خارج الوطن؛ فالأصل هو بناء فرص عمل داخل الوطن، والهجرة للخارج المدفوعة بضيق العيش وتقلُّص الفرص وغياب العدالة الاجتماعية، غالبًا ما تُوَلِّد تجارب عكسية على الداخل، فليس كل بريق الخارج ذهبًا- كما يُقال- فالإنسان مهما ارتحل إلى أي بقعة من هذه الدنيا يظل هاجسه مُعلَّقًا بوطنه، وعندما يأوي إلى فراشه البعيد عن أهله ووطنه واضعًا وسادة الغربة تحت رأسه كل مساء، يسأل نفسه سؤالًا غالبًا يعرف إجابته.. لماذا أنا هنا؟!

الأكثر قراءة