الأسرة بين الإهمال والنرجسية

 

سلطان بن ناصر القاسمي

لا أعرف من أين أبدأ حديثي، أو كيف أصف ما يدور في داخلي تجاه هذه القضية، وهل تصنّف ضمن طائلة الإهمال، أم تدخل في خانة النرجسية المُفرطة لدى بعض الرجال الذين يتخلون عن مسؤولياتهم الأسرية، ويتنصلون من دورهم التربوي والإشرافي بحجة الانشغال بالعمل أو الارتباطات الاجتماعية؟ تلك المبررات التي قد تُدرج بسهولة تحت ما يمكن تسميته بـ"الغباء الاجتماعي"؛ حيث تُمنح الأولوية لما هو خارج البيت، ويُهمل ما هو أوجب داخل أروقته!!

ومن هذا المنطلق، نجد أن كثيرًا من الأسر، للأسف، تعاني بصمت ويلات هذا الإهمال المتكرر، والممارسات النرجسية لأحد أطراف القيادة الأسرية. ومن يتابع حديثي هذا، حتمًا ستخطر في باله مواقف أو شواهد أسرية تشبه هذه الحالات، إن لم يكن قد مرّ ببعضها شخصيًّا. فكثيرًا ما نرى رب أسرة يعمل ويتقاضى راتبًا شهريًا، لكنه لا يُحسن التصرف فيه، فتكون أسرته في أمسّ الحاجة إليه، بينما هو يُنفقه بلا وعي في دائرة مغلقة من التفاخر والمبالغة الذاتية.

وما يزيد الطين بلّة أنَّ هذه السلوكيات لا تُعدّ فقط أخطاء سلوكية؛ بل ترتبط بحالة نفسية تُعرف بـ"اضطراب الشخصية النرجسية"، وهي حالة تتميز بنمط مستمر من الشعور بالعظمة، والحاجة المفرطة للإعجاب، والافتقار إلى التعاطف. ويُبالغ المصابون بها في تقدير قدراتهم، ويضخمون إنجازاتهم، ويقلّلون من قيمة الآخرين، وقد نجد هذا السلوك في الرجال والنساء على حد سواء.

لكن الأخطر من ذلك كله، أن تجتمع نرجسية الطرفين في أسرة واحدة، حينها تكون النتيجة مأساوية بحق، وتكون الضحية الوحيدة للأسف هي الأبناء. كما أن هناك حالات أخرى لا تقل ضررًا، يمكن إدراجها تحت مظلة الإهمال، حين يتنازل الرجل عن دوره الأبوي، ويُسند كامل المسؤوليات للزوجة، مكتفيًا فقط بما يُمكن تسميته بدور "التفريخ".

ومن هنا، أجدني مضطرًا للوم تلك الزوجة التي ارتضت لنفسها منذ البداية حمل جميع الأدوار، وتركت له المجال مفتوحًا يسرح ويمرح بين أهوائه وأصدقائه، دون أن تضع له حدًا واضحًا لدوره ومسؤولياته.

وبما أنني تطرقت إلى النرجسية، فلا بُد أن أُشير إلى أبرز سمات هذه الشخصية، التي قد تنطبق على بعض الأشخاص، ومنها:

  1. يظهر النرجسي في البداية بصورة جذابة ومتميزة، سواء في حضوره أو تعامله مع الآخرين.
  2. تغلب عليه الأنانية وحب الذات، ويتهرب من النقاشات بأي حجج يختلقها.
  3. يشعر بعظمة تجاه نفسه، ويحرص على إظهارها لأقرب الناس إليه، خصوصًا أسرته.
  4. يتسم بالغطرسة والعجرفة عند الحوار مع أفراد الأسرة، ويُهمل نتائج النقاش، ثم يتصرف وكأنَّ شيئًا لم يحدث.
  5. لديه شعور قوي بالاستحقاق؛ حيث يرى أن له الحق المطلق في ما يريد دون اعتبار لمشاعر أو قدرات الآخرين.
  6. يسعى دائمًا للحصول على الإعجاب والثناء من خارج نطاق أسرته، مما يجعله بعيدًا عاطفيًا عن بيته.

وهنا يبرز التساؤل المهم: كيف نُعيد البوصلة الأسرية إلى مكانها الصحيح إذا كان أحد الأطراف نرجسيًا؟

أول خطوة تكمن في التجاهل المتعمّد، ليشعر هذا الشخص بعدم التقدير، لأنَّ منبع قوته هو سعيه المحموم للثناء. ولكن، لا بد من التنويه إلى أن ردة الفعل قد تكون عنيفة أو تتسم بالغضب المفرط، وربما يصل الأمر إلى الإيذاء العاطفي أو الجسدي، مما يستدعي الحذر والانتباه. لذلك، يُنصح بالابتعاد عن العلاقات مع من تظهر عليه هذه الصفات، خصوصًا في مرحلة مبكرة قبل التورط العاطفي.

أما لمن هو مضطر للتعايش مع هذه الشخصية، فأقترح الآتي:

أولًا: محاولة دفع النرجسي بلطف إلى المشاركة في مسؤوليات الأسرة، حتى لو كان الدخل من الطرف الآخر.

ثانيًا: التظاهر بعدم الاهتمام أو الاكتراث لتصرفاته داخل البيت.

ثالثًا: التعبير الخفي عن الشعور بعدم الأمان والخزي والقلق تجاه مصير الأبناء.

رابعًا: التسلّح بالصبر والدعاء، لأن بعض هؤلاء الأشخاص لا يُدرك خطورة سلوكياته إلّا عند وقوع أزمة تمس أحد أفراد أسرته. حينها فقط تراه يتحرك بكل ما أوتي من جهد؛ بل قد يستخدم وسائل غير سليمة لحل الموقف.

ولكن إن سارت الأمور على ما يرام من وجهة نظره، فهو سيبقى كما هو، ثابتًا على نهجه دون تغيير. لهذا، يُنصح أيضًا بالاستعانة باستشارات نفسية متخصصة قد تساعد في علاج مثل هذه الحالات إذا وُجدت رغبة حقيقية في التغيير.

وهنا، أوجه نداءً صادقًا لكل من يرى في نفسه ملامح هذه الشخصية، أن يبدأ بإصلاح العلاقة بينه وبين الله عز وجل، فهو الرزاق الكريم، ومن بيده الخير والهداية. وأكثروا من الاستغفار، امتثالًا لقوله تعالى "فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا" (نوح: 10- 12).

كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "من أحب أن يُبسط له في رزقه ويُنسأ له في أثره، فليصل رحمه"، وهذا يؤكد أن بركة الرزق مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بإصلاح النفس وتقوية روابط الأسرة.

ومع كل ما ذُكر، لا يمكننا التعميم على الجميع، فثمة تباين في الحالات؛ فمثلًا، هناك من يتحمل مسؤولية الأسرة، ويحرص على تلبية احتياجات أبنائه بكرم واضح، لكنه يفتقد فن التواصل. قد لا يتحدث مع أبنائه، لا يستمع لهم، ولا يحترم رأيهم؛ بل يفرض رأيه دومًا ويعتبره الصواب المطلق، ويرد بحدة واستهزاء إذا خالفه أحد، وكأن الحوار لا قيمة له. مثل هؤلاء لا يُعانون من نرجسية سلوكية كاملة، ولكنهم يفتقرون لآداب الحوار، والاحترام المتبادل، وهي أمور لا تقل أهمية في بناء أسرة سوية.

وختامًا.. نحن بحاجة إلى إعادة تعريف الأدوار داخل الأسرة، وتقسيمها بتوازن وعدالة، وتربية أفرادها على الحوار والاحترام والاعتدال في السلوك، حتى نحميها من التفكك العاطفي والمجتمعي، ونُرسي دعائم الاستقرار الحقيقي.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة