محمد بن رامس الرواس
في أعماق قطاع غزة؛ حيث تشتد الأنفاس وتختنق الأزقة برائحة الموت، ترتفع صرخات لا يسمعها أحد إلّا من ابتُلي بالعزلة واليأس. هم ليسوا ضحايا حرب عابرة؛ بل أسرى من جنود إسرائيل، الذين تحتجزهم حركة حماس منذ 7 أكتوبر 2023، يقبعون خلف الظلال والحديد، بين جدران الصمت، بسبب مجرم حرب عتيد اسمه بنيامين نتنياهو لا يكف عن مواصلة حرب الإبادة في قطاع غزة، مُتناسيًا هؤلاء الأسرى، أو بالأحرى يُتاجر بهم سياسيًا وعسكريًا، لتحقيق مآربه الدنيئة وأهدافه الخبيثة.
هؤلاء الأسرى يستغيثون بقائد دولتهم المجرم، يرسلون الرسائل المصورة والمكتوبة، يتوسلون بأعينهم أكثر مما تفعل ألسنتهم، ينادون حكومتهم التي تحتل التراب الفلسطيني الطاهر، ولا تجيب عليهم، ويذكّرون بوجودهم في كل مناسبة سياسية وميدانية، لكن دولتهم المُجرمة الغاصبة للأرض تُغمِض عينيها عنهم وتفتحهما فقط على شهوة القوة وبطش الانتقام.
أولئك الجنود الذين خاضوا حربًا ظنوا أنَّهم سيسطِّرون فيها المجد، وجدوا أنفسهم أسرى في صفقة لم تُحسم ومن يدري هل ستُحسم أصلًا! إنهم مجرد خيوط في قضية تفتقد للعدالة الدولية وتتجاهلها السياسة عمدًا. قد لا تكون معاناتهم جسدية فقط؛ بل نفسية تتآكلهم يومًا بعد يوم. يسأل أحدهم الآخر: "هل لا زلتَ تؤمن بإسرائيل؟" فيصمت طويلًا، ثم تنهار دمعة لا تعرف إن كانت حسرة على وطن أم خيبة في وعد كان كذبة من البداية، وعدوان صريح على أرض لشعب مُتجذرة أصوله في ترابها.
الإعلام الإسرائيلي الذي يُتقن تسويق القصة عندما يُريد، يتعامل مع قضية هؤلاء الأسرى بانتقائية لافتة، فهو يرفع صوت عائلاتهم في مواسم الاحتجاج، ثم يعيدهم إلى زاوية النسيان حين يفرض الواقع السياسي منطقه. الصرخات المنبعثة من غرف الأسر لم تعد تطرق آذان الساسة، بل صارت تُصنَّف كـ"مشكلة تكتيكية" أو "قضية تفاوضية" مؤجلة إلى إشعار آخر.
من جهة أخرى، تُمسك حماس بخيوط المشهد كمن يُمسك ببطاقة ضغط لا تُقدَّر بثمن. تعرف المقاومة أن قيمة الأسرى تتضاعف في زمن التوتر والحرب، فتلوِّح بهم في كل تصريح، وتحتفظ بهم كورقة يجب أن تكون رابحة. هي لا تنكر أنهم أسرى؛ بل تؤكد أنهم رمز لمعادلة لن تُحسم إلّا بتحقيق شروطها العادلة والمُنصفة للشعب الفلسطيني الذي يترجع ويلات الحرب والجحيم منذ أكثر من 18 شهرًا.
إنها صرخات الموت، ليس لأن الأسرى يموتون؛، بل لأن إنسانيتهم تموت بصمت، كل يوم، بلا دواء ولا دفاع، بلا وعد بالحرية، وبلا حكومة تجرؤ على الخضوع للمنطق الإنساني بعيدًا عن الحسابات السياسية والعنصرية الوقحة لنتنياهو وأمثاله من بن غفير وغيره من المتطرفين الأوغاد.
في النهاية، يتكئ الأسرى الإسرائيليون على جدران أقبية الأسر، في انتظار صفقة قد تأتي أو لا تأتي. وفي إسرائيل، يتبادل الساسة الاتهامات، ويتحدث الإعلام عن "الأمن القومي" و"الردع"، بينما تستمر الصرخات، خافتة، منطفئة، كأنها تقول: "لقد متنا قبل أن نُحرر".
وفي المقابل، هناك أيضًا صرخات لأكثر من مليوني فلسطيني يموتون ببطء في العراء، بلا مأوى أو ملجأ يحميهم من نيران الطائرات ولا قذائف المدفعية العنيفة، التي لا ترحم صغيرًا ولا كبيرًا وامرأة ولا شابًا، ولا تُميِّز بين مدني أعزل ومُقاتل صنديد في وجه الطُغاة والظالمين من اليهود.
فهل يسمعهم أحد؟ أم أن السياسة في زمننا هذا لا تملك أذنين لنداءات من لا يحمل أوراق القوة؟
ربما سيكتب التاريخ ذات يوم: "في غزة، كانت هناك صرخات، لكن لا أحد أراد أن يسمع".